إعلان

التوائم الملتصقة في «جزيرة إلخ إلخ»

د. ياسر ثابت

التوائم الملتصقة في «جزيرة إلخ إلخ»

د. ياسر ثابت
07:00 م الجمعة 09 سبتمبر 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

في رواية «جزيرة إلخ إلخ» (الدار المصرية اللبنانية، 2022) يُقدِّم الروائي مينا عادل جيد حكاية تكتسب طابع الأسطورة وتقترب من حكايات «ألف ليلة وليلة» مع خلفيات دينية وفلسفية لا تخطئها العين.

عبر 215 صفحة من القطع المتوسط، يقودنا الروائي بأسلوبه التوثيقي والتفصيلي في دهاليز حكاية خرافية استعصت على الفناء.

«جزيرة إلخ إلخ» تقود القراءة بناءً على معمارها وعلى وعيها السردي المستقطب لتعدد الأصوات واللغات وتواشج الشخصيات وصراعها وتعارضها، وتداخل الأزمنة وتباعدها، في سيرورة تحكمها دورة زمنية ممتدة زمنيًا ومكانيًا، وهي فترة يملأ الحكي بياضها بتأصيلٍ نكتشفه مع السطور الأخيرة للرواية.

تتأسس الرمزية في هذا النص الروائي على المحاكاة الساخرة، وهي محاكاة ذات بُعد تنظيمي واختزالي، يعمل على انحرافات سردية -إن جاز لنا الوصف- بُغية إيصال دلالات معينة من ناحية، وإبراز رمزية الشخصية من ناحية أخرى، وهذا نجده في الكثير من المشاهد والأحداث في الرواية.

الرمزية في النص لا تقوم على السرد العام بقدر ما تقوم على الصورة التي تؤطر هذا الرمز وتجعله صورة لغوية تأثيرية متوازية مع المفارقات الساخرة التي ينشدها النص، غير أن هذه الرمزية الساخرة تؤسس لوظيفة أيديولوجية من خلال صور متتالية عبر عمليات الكشف في تتابع الأحداث وانكشافها، والحمل في تكثيف الرمز وتحميله لمجموعة من الدلالات، والمتجاورة في فك شفرات تنامي الشخصيات.

لعل صفة «المتاهة» هي الأشد ملاءمة للإحاطة بهذه الرواية، المتعددة المداخل والمخارج، بل المتعددة الخيوط والوقائع والحكايات والكواليس.

تحفل الرواية بما لا يُحصى من المرويات والوقائع والأحداث و«الأكاذيب» الجميلة والشخصيات.. فالحكاية تخرج من الحكاية، والشخصية تنسلّ من الشخصية.

لم يترك الروائي شاردة تفوتها أيًا كان أثرها، فبدت الرواية أشبه بالنهر على صغر حجمها مقارنة بالروايات الفائضة... أسماء وأشخاص وأماكن وتواريخ وتفاصيل، آباء وأبناء وأحفاد، عادات وطقوس، وأحداث لا تنتهي وإن كانت هامشية أحيانًا.

تثير الرواية سؤالًا افتراضيًا: ماذا لو كانت هناك جزيرة كل سكانها توائم ملتصقة؟ على جزيرة للتوائم الملتصقة تقع في مكان ما وزمان ما، كل أبطالها يبحثون عن شيء ما.

يأخذنا الكاتب عبر أحداث ذات طابع أسطوري مليئة بالسخرية والتشويق وشخصيات لا تنسى نعيش مغامراتهم في البر والبحر ليطرح أسئلة ملحة عن ماهية الوجود الإنساني. والشعور بالوحدة، وكيف يمكن للإنسان أن ينفق عمره بحثًا عن السعادة الكاملة. أحداث تبدو مضحكة في ظاهرها بينما فيما يحمله معناها شيء يستحق التوقف والتأمل.

ابتكر مينا عادل جيّد في «جزيرة إلخ إلخ» عالمًا خرافيًّا متكاملًا مستقلًّا؛ له ثقافته ودينه وتاريخه وسياسته وجغرافيته واقتصاده وأحلامه، بطريقة كلام مختلفة، والاهتمام بصغائر الأمور لا بكبائرها والمصيري منها. «جزيرة إلخ إلخ» هي نافذة على أرواحنا المختبئة، عدسة مكبرة لما يحدث داخل رؤوسنا من ازدواجية وهواجس ومخاوف وعبث في بعض الأحيان.

بطل الرواية هو «طفّو»، الذي يعمل في بيع السكر. ذات يوم، وجد نفسه أمام جوال ثقيل استأمنه عليه رجلٌ غريب يُدعى «ميجو»، حتى يزور أقارب له في الجزيرة، وحين يتأخر الرجل الغريب حتى اليوم التالي يقرر «طفّو» فتح الجوال، «فوجد فيه ثلاث طبقات من سبائك الفضة، وتحتها خمس طبقات من سبائك الذهب، ثم صندوقًا على شكل رأس جمل من الخشب ارتفاعه شبر ونصف الشبر، خشبه قديم جدًا، وتحت الصندوق عشر طبقات من الياقوت» (ص 33).

يأخذ «طفّو» الجوال إلى البيت، ثم يستعين بشابٍ تعرف إليه في الحانة، يُدعى «كا» لحل لغز مكونات الجوال، وخاصةً الصندوق الذي يحوي الجسم الغريب الذي لونه كأطراف قرص قمر، تشده يُشد، تمطه يُمط، تتركه فيعود كما كان» (ص 58).

لحل اللغز، يقصد الرجلان الرحالة المُسن «بادو»، الذي جال العالم واستكشف ما هو غامض فيه، إلا أن الرحالة صارحهما بأنه لم ير مثل هذا الجسم الغريب، ونصحهما بأن يسألا الفيلسوف «كيندلو»، الذي لم يزد على أن يقول لهما إن هذه المادة «في علم السماء» (ص 72). أما الفلكي «ميخو» فرأى أن هذا الجسم الغريب قد يكون أتى من الفضاء. بدورها، أرشدتهما المنجِّمة «أسترو» إلى الخيميائي «مادو» الذي أضاف إلى هذه المادة بضع قطرات ثم جرَّب تسخينها في وعاء على لهب أحمر، فلن يحدث أي تغيُّر فيها، حتى عند وصولها إلى درجة الانصهار. دلّهما «مادو» على العالِم «مانو» المنفي في جزيرة الكناغر.

أبحر الثلاثة -«بادو» و«طفّو» و«بوتو»- إلى الجزيرة البعيدة وخاضا في أهوال البحر، وعندما استوقفتهما سفينتان ورأوا أكثر من عشرة رجال، لكل منهم رأس واحدة، أراد «طفّو» أن يلقي بصندوق رأس الجمل الخشبي وبداخله الجسم الغريب في البحر، علَّ أحدًا غيرهم يعثر عليه ويعرف ماهية هذا الجسم الغريب.

مع استمرار غياب الزوج «طفّو»، قررت زوجته «كنزو» أخذ حميها وحماتها وابنتها «كاتو» وابنها «كا» إلى قصر الحاكم ابن السماء،، لترجوه أن يتدخل بسلطته وعطفه في الأمر، ويرسل حملة بحرية إلى جزيرة الكناغر للبحث عن زوجها وطاقمه.

التقت الأسرة مع ولي العهد وقدَّموا مظلمتهم، فلما أعجب ولي العهد بالابنة «كاتو» اقترح عليهم بقاءها في بلاط القصر الحاكم لمتابعة المسألة. عرض ولي العهد على «كاتو» مساعدته في العثور على حُب حياته في شوارع الجزيرة وبيوتها، واتفقا على توجيه سؤال ملغز أو «فزورة» إلى فتيات الجزيرة، مع رصد جائزة كبيرة لمن تجيب الإجابة الصحيحة على موضوع الساعة «ما هو الشيء الذي تشده فيُشد تمطه فيُمط، تتركه فيعود كما كان؟» (ص 139).

يزور الاثنان «حي الأيادي الناعمة»، حيث التجار والأثرياء، و«حي الأسر المتأرجحة»، الذي يضم المتعلمين والفنانين والصنّاع المهرة من أبناء الجزيرة. قادتهما الجولة إلى «حي الذين ينامون جوعى»، ثم قصدا شاطئ البحر الكبير، قبل أن تصحب «كاتو» ولي العهد المتنكر إلى الحانة، ليقابل المزيد من أبناء الشعب ويستمع إلى أفكارهم.

عبر ألغاز «جزيرة إلخ إلخ»، تستوقفك في هذه الرواية جُمل وعبارات وأوصاف طازجة وغير مستهلكة، مثل:

«كانت فتاة «ميجو»، ذات الابتسامات التي تشبه أطباق الفاكهة، ترقص كأنها تطير، وتطير كأنها ترقص» (183).

«كانت «كاتو» سمراء ولها هيبة مصدرها أنفاها المرتفعتان بانحدار هرم كبير إلى الأعلى حيث جوهر الكون ذاته، عيونها سوداء قوية النظرة كشيطانة ذكية» (ص 128).

«طلعت الشموس كأطفال بلا خطيئة، ووقفت حمامة على شباك «طفّو» لونها بنيّ كشعر المسيح في تصاوير الأوروبيين» (ص 16).

الأكيد أن الصور التي يقدِّمها النص للشخصيات تصنع للقارئ مجالًا رحبًا لسبر أغوار تلك الشخصيات عبر القيم التي تتأسس عليها؛ وهي قيم ذات أبعاد نفسية وانفعالية ورمزية.

إعلان