إعلان

دائرة الزيف في «بار ليالينا»

د. ياسر ثابت

دائرة الزيف في «بار ليالينا»

د. ياسر ثابت
07:00 م الثلاثاء 05 يوليو 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

هذه رواية عن الحماقات الرومانسية، والصدمات التي تكسر دائرة الزيف في أوساط المهمّشين والمثقفين على حدٍ سواء.

«نوح الرحيمي» مجرد رجل عادي يعيش حياتين، كموظف في شركة أدوية من أجل سداد الفواتير، وكومبارس صامت من أجل إرضاء نزعته الخفية إلى الفن.

لكن العاديين هم أفضل أبطال الحكايات.

«لقد أحبَّ نوح كل شيء في العالم، الجمال تحديدًا، الذي كان يكتشفه حتى في أكثر الأشياء قبحًا. كان يدرك عبر حاسة متوهجة ويقظة في روحه، الخيط الناظم الخفي الذي يعقد كل الموجودات معًا وفي تلك النقطة، يمكنك اتهامه بالرومانسية المفرطة، لا الحماقة» (ص 10).

«نوح الرحيمي»، هو ذلك الكومبارس الفاشل الذي ينال دورًا أكبر مما كان يأمل، وبكثيرٍ مِن المشاهدين. كومبارس ينوب عن الحَمقى والطامحين إلى النّظر إلى أبعد نقطة ممكنة، في حين أنهم عالقون في الهواء، قبل أن يسقطوا في الفخ كضحايا للحماقة.

يمكن القول إنه نوح الأحمق، الذي أغرق الجميع في طوفانه. مع ذلك، فإن القارئ بوسعه أن يحب هذه الشخصية الرئيسية في رواية «بار ليالينا» (دار الشروق، 2022)، التي أبدعها أحمد الفخراني وكثف لغتها وأحداثها في 152 صفحة.

«استعان نوح بقصة توماس إديسون الذي لم يفشل قط، بل اكتشف عشرة آلاف طريقة لا يعمل بها المصباح، القصة التي طالما بثها آباؤنا ومعلمونا في صلب أرواحنا كي يؤهلونا –على عكس ما آلت إليه حيواتهم- ألا نستسلم أبدًا» (ص 24).

إنه رجلٌ عادي، يعيش حياة رتيبة ويواجه في بيته ما يوصف بـ«تنين الكراكيب»، وظل متعايشًا مع هذه الحياة «حتى قالها ذات يوم لزوجته، وكأنه اكتشف أخيرًا سر بؤسه: «تلك الأشياء ابتلعت حياتنا» فانفجرت في البكاء» (ص 26).

مَثّل «نوح الرحيمي» هذا الدَّور لسنواتٍ بلا انقطاع أو استراحة، وفي قرار درامي، إلى حيلة يتسلل عبرها إلى «بار ليالينا» الذي يقتصر رواده على نخبة من المثقفين؛ أملًا في أن يفهم عبر محاكاتهم، السر الذي جعله مجرد رجل أحمق محدود القدرات وحوَّلهم إلى أشخاص فائقي الذكاء، فيتنكر في شخصية منتج سينمائي ثري. عندما تنكشف حقيقته تقرر جماعة بار ليالينا طرده، لكنه يرفض المغادرة فيقررون التسلي بخداعه عبر حيلة تمنعه من الرجوع إلى البار وتُحوِّله إلى مزحة يتندرون بها. بعد عشرين عامًا يقرر نوح العودة للانتقام.

لكن هل الانتقام يُنسيك أن هناك من خدعك واستغل حماقتك وسعيك وراء ما لا يُشترى حَتى أوقعك في هزةٍ بلا قرار؟

لك أن تتساءل، من البطل في هذه الرواية؟

«نوح الرحيمي»، أو «الرجل الصغير» كما يراه «يسري الحلو» ومثقفو المدينة. هل البطل هو «نوح»، الذي يعشق السينما ويرى في تأسيس شركته «الصمت الرهيب» مع أصدقائه الكومبارسات الذين رأوا أن «التعثر الدائم» هو الطريق الوحيد لبلوغ الحظ.

أم أن البطل هو «يسري الحلو»، الذي يحتقر الرجال الصغار -على حد تعبيره- ويرى في حماقتهم عدوى. إن «يسري» يحب أن يحاط بالأذكياء ليمتص مواهبهم، في حين أنه في الأصل أكثر تشابهًا مع «نوح».

أيهما البطل الحقيقي؟

الحُكم للقارئ وحده.

سؤال آخر يتفرع عن قراءة الرواية: هل حقًا «الرجال الصغار» فئران وتأثيرهم كالطاعون على حد وصف «يسري الحلو» رئيس تحرير مجلة «باب الحقيقة»، أم أنه لولا هؤلاء الرجال الصغار لما تباهى الأذكياء بتميزهم؟

في روايته الجديدة، يثبت أحمد الفخراني مجددًا أنه أحد الذين يتصدرون عن جدارة المشهد الروائي المصري.

خليطٌ من الروائي والشاعر والفيلسوف، مع قدرة فذة على خلق عوالم جديدة تستوقفنا وتدعونا إلى التأمل في حياتنا ذاتها.

في حوار صحفي، يقول الفخراني:

«أستقي حكاياتي من واقع المدينة ومن وجوه بشرها المسحوقة والكئيبة والمهزومة بفعل فاعل. أغلب شخصيات رواياتي قابلتها بالفعل في المدينة. أنا فقط أعيد تشكيلها عبر خيالي. القاهرة مدينة ملهمة، حتى وهي تحت وطأة الخراب».

الفخراني، الذي ينأى عن الصراعات الوسط الثقافي ويحتفظ بطاقته للفن، ويكتفي بحياة ظاهرها تقليدي وهادئ وبسيط، نجح في صُنع عالمه، أو قل زاوية نظر تخصه للعالم، وهو يحاول إعادة تشكيل هذا العالم بجرأة في الكتابة والتجريب.

يُقدِّم أحمد الفخراني لنا «نوح الرحيمي»، الذي نعجز عن تحديد ما إذا كان موهوبًا ظلمه الجميع، أم فاشلًا ظلم نفسه بنفسه، ومن هنا تبدأ رحلته السيزيفية حول البحث عن ذاته، ذاته التي يعجز هو شخصيًا عن تحديدها من كثرة تلونه واتخاذه للشخصيات المختلفة طبقًا لمسيرته المهنية ورغبات موهبته الخاصة.

رواية «بار ليالينا» ملهمة في سلاستها وقدرتها على استخدام التيمات القديمة الشهيرة للانتقام، كأنها تحية للأفلام الهابطة التي شكلت جزءًا من وعينا في زمن مضى. استطاع الفخراني بذكاء شديد أن يستخدم تيمات تبدو هابطة لصنع حكاية متقنة للغاية وزرع أفكار شديدة الثراء داخل الحكايات المسلية.

تدور الأحداث في الفترة من بداية عام 2000 وحتى عام 2020، في إطار واقعي، داخل أحد البارات التي يقتصر دخولها على فئة معينة من البشر، وتعتمد على تيمات السرد الشعبية، والروح الهزلية. لا شك أن المونولوجات التي تبدّلت على لسانِ بَطل الرواية وباقي الشخصيات، وحَتّى الراوي، وضعتنا في جو سينمائي يُسهِّل حركة موتيفات الرواية أمامنا أثناء القراءة.

ورغم أنها رواية مكان، فإن الشخصيات المميزة مهمة بقدر أهمية المكان، والمكان مهم بقدر أهمية الشخصيات، ليمتزجا سويًا وينتجا لنا هذا النص العجيب في ذاته وفي أفكاره، بل وفي عناوين فصوله المستوحاة من عالم الأفلام والدراما والتليفزيون، ومن ذلك عناوين: «الكاميرا الخفية»، «أضواء المدينة»، «ذئاب لا تأكل اللحم»، «عفوًا أيها القانون»، «شنبو في المصيدة»، «سيدة الأقمار السوداء»، «حافية على جسر الذهب»!

تحت عنوان «بار ليالينا .. كلاكيت أول مرة»، نقرأ:

«ذات مساء غادر نوح بيته متنكرًا كأرستقراطي متأفف متوجهًا إلى «بار ليالينا»، ولم يثنه عن عزمه الغبار الأصفر الذي جاب المدينة في تلك الليلة كنذر لعاصفة ترابية.

استقل سيارة فورد صفراء قديمة كانت ملكًا لرشدي أباظة، أعاره إياها صديق عمره، سيد سيما، الدوبلير السابق ومورد السيارات الأنتيكة لأستوديوهات التصوير، وقد آمن أن حصوله على تلك السيارة التي لا يُفرط فيها سيد أبدًا لغريب، هي بشارته الكبرى على أن خطاه مباركة من القدر» (ص 39).

احتكاك «نوح الرحيمي» برواد «بار ليالينا»، ينتج عنه شرارات العبث والزيف، برغبته المحمومة في نيل إعجابهم والتقرب إليهم، رغم تشابه هؤلاء الرواد في فشلهم الذاتي مع نوح مهما بدا في الظاهر خلاف ذلك.

الجميع مشتت، الجميع يكافح من أجل اللاشيء، في مسرحية ساخرة عبثية يظن كل فرد فيها أنه بطلها، لتنتهي الرواية بنهاية مليئة بالغرابة كأغلبية صفحات هذا النص.

نستطيع أن نرى بوضوح تام محاولات الفخراني لتشريح جماعات المثقفين، ونقد أدوارهم داخل المجتمع، وطرق التفاعل فيما بينهم وانعكاس هذا التفاعل على طريقتهم في إدارة شؤونهم الخاصة. خذ عندك -على سبيل المثال لا الحصر- نديم.

«كان نديم على عكس كل ما تخيله نوح عنه ، أكثر شبهًا به مما تصور، محض ممثل يؤدي دور الموهوب الذكي ليخفي حماقة دفينة وجهلًا عميقًا» (ص 65)، و«انضم ندیم إلى مائدة «بار ليالينا» قبل ثلاث سنوات عندما بدأ أولى خطوات عمله الصحفي، وكانت سيرة والده هي تذكرة دخوله» (ص 65). «استخدم نديم عناوين مكتبة أبيه التي لم يقرأ منها حرفًا لإنشاء سمعة زائفة كمثقف عتيد» (ص 67).

بجرأة، يتحدّث الفخراني عن تشوش الحدود بين الرصيدين العالِم والشعبي، بين الثقافة العالية والثقافة الواطئة، ويتناول مجتمعات المثقفين وتجمعاتهم في مواجهة الغوغاء، لكن الحقيقة التي تصلك عبر رسائل غير مباشرة هي أن هؤلاء الغوغاء ما هم إلا صدى لتوجهات المثقفين.

لا نملك مع النهاية إلا أن نرثي تلك الشخصيات (نعمات، وسيمة العليمي، علي الأمير، الضمراني، علية الأدهم.. إلخ) ونقول ما قاله «يسري الحلو» في آخر سطور الرواية: «يا للحماقة!» (ص 152).

حتى الشخصيات الفرعية تنال حقها من الوصف، مثل ذلك الزجال الذي يمتلك «حقيبة جلدية صغيرة بُنية اللون لا تفارقه أبدًا، لا يضعها على الأرض أو الطاولة، بل قريبًا من صدره» (ص 102).

نقرأ: «ذات ليلة تسرب مزاج مرح إلى رأسي وكيل المحامي والزجال بفعل الشيطان وشراب جيد أفلت من بين براثن السيدة نعمات عن طريق الخطأ، وتجادلا بوقاحة بشأن محتوى الحقيبة، على مسمع من صاحبها.

قال الزجال بنظرة حالمة: «إنها تحوي كل ما يملكه في حياته، قشة نجاته، شيك بمعاش مبكر، آخر قطعة مجوهرات في العائلة التي أذلها الفقر بعد عزة، خصلة من شعر زوجته التي قتلها السرطان، يومياته، زجاجة خمر نادرة، كلما تأخر شربها زادت حلاوتها ويدخرها المناسبة خاصة، زئبق أحمر يجلب الحبيب...» ( ص 103).

«بار ليالينا» رواية لن تملَّ للحظة أثناء قراءته، وأنت تفكر في النماذج البشرية التي أشار إليها أحمد الفخراني، ولكنك تجد توائم لها في أوساط المثقفين.

إعلان