إعلان

الإنسان وتجليات الملل ..

د.هشام عطية عبد المقصود

الإنسان وتجليات الملل ..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 20 مايو 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

الملل .. حافز تغيير الأشياء لتكون أكثر تنوعا واختلافا وبهاء وبهجة أيضا، لتمضي الحياة متغيرة قليلا، وربما هكذا جاءت طرق وتفانين الطهي إلى العالم فلم تبارح قط.

الملل من نوع الطعام حالة بشرية ربما مترسخة في الجينات لا يعرفها الأرنب والسلحفاة وأبو قردان والحمار والكلب، هل رأيتم حمارا استشعر مللا من وجبة برسيمه أو تأفف!، ضع البرسيم للحمار سيأكله سعيدا في كل مرة ويمضي.

لا يحمل التاريخ المروي شيئا كثيرا عن تطور فكرة طهي الغذاء في العالم، لا بأس سأروي التجربة كما أعتقدها، فذات نهار بعيد خرج جدنا القديم مع ضوء الفجر الأول ليبحث عن الطعام مصحوبا بأمنيات النصر والعودة الظافرة، لكنه في هذه المرة يعود متباطئا وقد غاب إحساس الجوع اليومي المعتاد حين تذكر أنه سيأكل نفس الطعام الذي يعرفه مرارا ومطهوا بذات الطريقة، في ذات الوقت فكرت جدتنا القديمة في الأمر نفسه وقالت: بات يأتي متأخرا وصار يأكل أقل، ثم الأهم أنه يجلس كل غروب يفكر في أشياء مجهولة وهو يحملق هناك أعلى الجبل.

هبطت هنا الفكرة الأولي التي قادتنا بعد زمان طال قليلا نحو صينية البطاطس الشهيرة، ومضت الحياة هنيئة، وبعدها يمكنك أن تلمح صورة الرجل "الجديدة" على رسوم الكهوف والجدران يصاحبه "كرش" صغير في أول تجسيد تاريخي له على رسوم الكهوف.

ستمضي مسافة زمنية من كتاب الطهي "الرسمي" الذي وزعته المدارس الأميرية على طالباتها في أربعينات وخمسينات القرن الماضي وصار تراثا عائليا تتناقله الأجيال ليؤدي وظيفة أرادها أصحاب المعارف وقتئذ وهي "تأنيث المطبخ" والتأكيد عليه، بحيث إنه في حصة الإرشاد تتعلم الفتيات فن الطهي ويتعلم الفتيان الزراعة، ورغم ذلك لن يمر وقت حتي يكون أشهر الطهاة من الرجال، وتحدث تحولات تاريخية في سلوك الرجال من النظر للتواجد في المطبخ باعتباره "عيب" إلى أن يدهشنا عماد حمدي- في الستينات - في فيلم أم العروسة وهو يظهر طائعا مرتديا "مريلة المطبخ ".

في بدء التسعينات أطل أول برامج الطهي التليفزيونية والذي تحدث بإسهاب- نقلا عن وتقليدا لبرامج الطهي في تليفزيونات الغرب- عن طعام صحي، وبدأت تنفتح عيون الطبقة المتوسطة على جمل مؤثرة من مثل: إن الطهي "لازم يتعمل بحب" وإنه موهبة وإبداع، بعدها سيجلس ذات الرجل حفيد ذات الرجل "القديم" ممددا ساقيه ليقول موجها الحديث في المطلق بخبث مألوف: شوفوا الدنيا فيها حاجات تانية كتير إزاي غير صينية البطاطس باللحمة والفراخ .. ياسلام ياولاد، وستصل الرسالة.

ستأخذ رحلة الطهي تعبيرات طبقية وستعرف حالة المشاهد وظروفه من نوع برنامج الطهي الذي يتابعه ومكان بثه هل من أعلى سطح يخت يطل على المتوسط أو من مطبخ بسيط و"على أد الإيد"، وأيضا من زي الشيف والشيفة وطريقة الكلام ومحتوى الوصفة ستدرك فورا شرائح مريدي كل منهم ولكل مريديه، لتمضي بنا برامج الطهي توسعا وكثافة حتي ليكاد يكون في كل ساعة برنامج طهي، ويفرح الناس بالتعلم من على الشاشة والنقل الفوري الحصري في البيوت، ومن دون أن يتيقن أحد أبدا من كون الوصفة كانت فعلا حلوة ولا "طاشت"، فالكل يطهو والمتذوقون لا يخرجون على الشاشة أبدا ليحكوا ما حدث.

مع كل وصفات الطعام الموحدة والمقادير المقننة بدقة تضعها الشاشات سنفقد الكثير من لذة التجربة الأولي ومحاولة التنويع، سيحل التنميط ونستعيد فعل الملل بسرعة، وسيكون الأمر شبيها بأنك تدخل فرع أحد محال وجبات الطعام الجاهزة لتأكل نفس الطعام وتحظي بذات طريقة التقديم المنتشرة عبر ألف فرع في مائة دولة، ستختفي مع الوقت تفاصيل الطعام التي تصنعها الذائقة المجربة والمتفردة، تلك الجالبة للبهجة وصانعة التنوعات للطعام وتطوره.

إعلان