إعلان

 روسيا.. والعملة الملتحية

عمرو المنير

روسيا.. والعملة الملتحية

عمرو المنير

نائب وزير المالية سابقا

 

05:02 م الخميس 28 أبريل 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

قراءة التاريخ تعرفنا بالأفكار والتجارب الإنسانية في أزمنة وأماكن مختلفة، وتساعدنا على فهم التغيرات في أنماط السلوك التي تطرأ على الأفراد والمجتمعات.

عبر سلسلة مقالات سابقة استعرضنا عددا من الحكايات التاريخية التي ارتبطت بالضرائب وكان بعضها يحمل أفكارا حمقاء، جنبا إلى جنب مع أفكار تنطوي على حكم رائعة. وتعلمنا من استعراض تاريخ الضرائب أن أسلافنا كانوا يواجهون نفس المشاكل التي نعانيها اليوم، وأنهم لم يكونوا أقل منا براعة - ليس فقط في وضع الضرائب - ولكن أيضا في محاولة تجنبها والتهرب منها.

حكايتنا اليوم متشابكة الأطراف فهي عن نوع غير مألوف من الضرائب، ولكنها تظهر لنا كيف كانت روسيا تنظر الي التقدم في أوروبا كنموذج ترغب في الاقتداء به، وبمقارنة تلك الصورة بما نحن عليه اليوم ومشاهدة كيف تتعامل روسيا مع أوروبا والعالم الآن نستطيع القول إنه لا يوجد ثبات في أمور الدول والبشر، كما تكشف لنا وجها آخر للضرائب غير ما اعتدنا عليه من هدف جني الإيرادات أو تحقيق العدالة.

تبدأ الحكاية في عام 1696 عندما تولى القيصر الروسي بطرس الأكبر عرش روسيا وقاد سياسة توسعية تمكن خلالها من ضم أراض جديدة لروسيا التي تحوّلت بفضله إلى الإمبراطورية الروسية وباتت إحدى أهم القوى على مستوى أوروبا.

عند توليه العرش لم تكن روسيا مرتبطة كثيرا بأوروبا، لذلك قرر القيصر الروسي أن يقود متخفيا - بين عامي 1697 و1698 - رحلة دبلوماسية، عرفت بالسفارة الكبرى (The Grand Embassy). شملت الرحلة هولندا وروسيا وإنجلترا والعديد من المدن بأوروبا الغربية، وخلالها لاحظ بطرس الأكبر التقدم الكبير الذي تتمتّع به هذه الدول مقارنة بوطنه روسيا الذي كان يعيش حياة العصور الوسطى.

أثرت الزيارة عليه وانبهر بالتقدم العلمي والثقافي لأوروبا الغربية، وشعر أن بلاده تعاني تخلفا بسبب سيطرة رجال الدين. وفي عام 1698، عندما عاد بطرس الأكبر من رحلته الكبرى، شرع في مشروع طموح لتحديث روسيا من خلال تبني سياسة ثقافية جديدة للدولة فقام بمراجعة التقويم الروسي، وأدخل تغييرات على طريقة كتابة اللغة الروسية، وقام بتأسيس مدينة سانت بطرسبرج (Saint Petersburg) وجعلها عاصمة جديدة لإمبراطوريته بدلا من موسكو.

وحتى يتخلص بطرس الأكبر من كل ما اعتبره مظهرا من مظاهر تخلّف روسيا، قرر تغيير مظهر الروسيين لجعلهم مشابهين لسكان أوروبا الغربية، فانتقد انتشار اللحى بين الروس وسعى جاهدا لإجبار رعيّته على حلقها.

أمر بطرس رجال حاشيته الذين كانوا ملتحين أن يحلقوا لحاهم، ولكن ذلك أغضبهم كثيرًا فاللحية كانت عندهم أمرًا مقدسًا، وبعد عدة محاولات لإقناع رعيته بحلق لحاهم وجد بطرس الأكبر الحل في فرض ضريبة باهظة على اللحية حيث ستفضل الأغلبية – كما اعتقد - حلق لحاها تجنبا للعبء المادي بينما يستطيع جني الأموال لخزينة الدولة ممن يصرون على الاحتفاظ بلحاهم.

اختلفت ضريبة اللحية باختلاف المكانة الاجتماعية والمنطقة، فبينما أجبر كبار التجار على دفع 100 روبل سنويا مقابل الحفاظ على اللحية، كانت الضريبة المفروضة على العاملين بالبلاط الإمبراطوري وأعضاء الحكومة والعسكريين وصغار التجار وبقية سكان المدن 60 روبل سنويا، بينما فرضت على سكان المناطق الريفية مبالغ ضئيلة مقابل اللحية. واختلفت قيمة الضريبة بالعاصمة السابقة موسكو التي كانت تعد القلب النابض لرجال الدين والكنيسة لتقدر بنحو 30 روبل فقط.

كان الذين يدفعون الضرائب على اللحية يحصلون على صك من الفضة للنبلاء، ومن النحاس لعامة الناس يحمل على أحد وجهيه صورة نسر روسي وعلى الوجه الآخر صورة أنف وفم مزينان بلحية، هذا الصك كان بمثابة إيصال يدل على أن حامله دفع رسوم إطلاق اللحية.

وقد عثر علماء الآثار في مدينة بسكوف الروسية على قطعة نقدية من فئة "كوبيك" (الروبل يساوي 100 كوبيك) تعود للقرن السابع عشر، كتب على الوجه الأول للعملة (عام 7207 من خلق العالم)، وعلى الوجه الثاني رسم للحية وجملة "تم تحصيل الضريبة " وأسموها العملة الملتحية.

لم يكن بطرس الحاكم الوحيد في التاريخ الذي فعل ذلك ، فعلتها بريطانيا قبله فقد فرض الملك هنري الثامن ضريبة على تربية الذقن عام 1535 ، وفي ذلك الوقت كان شعر الوجه رمزا للمكانة العالية، ألغيت الضريبة بعدها لفترة ولكن أعيد العمل بها على يد الملكة إليزابيث الأولى، التي وجدت أن أي لحية تنمو لأكثر من أسبوعين يجب أن تخضع للضريبة.

هذه الحكاية التي احتفظ بها تاريخ الضرائب في دفاتره ليست مجرد حدوته وانتهت، ولكن فكرتها مازالت مستمرة، فإذا أخذنا منها الوجه الآخر لفرض الضرائب وهو التأثير في ممارسات الناس وتغيير السلوكيات الضارة بالمجتمع، فإننا نري اليوم ضريبة مختلفة في طبيعتها، ولكنها مشابهة لضريبة اللحية في منطقها وهي الضريبة على الكربون التي تهدف الي إنقاذ كوكب الأرض من مخاطر تغير المناخ عبر تقليل استهلاك السلع التي ينطوي انتاجها على انبعاثات ذات آثار سلبية ضارة.

وفي النهاية يمكن القول إن الضرائب كانت على مر العصور تستهدف أمورا مختلفة ، وفي كل حكاية من حكايات الضرائب تظهر لنا أوجها جديدة لم نكن نعرفها.

إعلان