إعلان

مقهى ريش.. مشط في ليل القاهرة

د. ياسر ثابت

مقهى ريش.. مشط في ليل القاهرة

د. ياسر ثابت
05:49 م الإثنين 14 مارس 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

بعض الكتب عينٌ ترى من كل الزوايا.

وتعدد المداخل هو أحد أوجه الثراء في كتاب ميسون صقر "مقهى ريش: عينٌ على مصر" (نهضة مصر، 2021)، فالباحثة (ولا نقول الكاتبة؛ لأن جهد البحث هنا كبيرٌ ومُقدّر) أحاطت بالموضوع من مختلف جوانبه، حتى أنها بدأت في التركيز على مقهى "ريش" اعتبارًا من الصفحة 261، وأفردت له بعد ذلك حوالي 400 صفحة من هذا الكتاب الضخم (654 من القطع الكبير).

تتناثر على صفحات الكتاب قضايا بالغة الأهمية، من تاريخ القاهرة الخديوية وعمرانها وميادينها، إلى المقاهي في حاضرة القاهرة، مرورًا بأدوار الشوام والأرمن واليهود في مرحلة التحولات الكبرى في تاريخ مصر، فضلًا عن مسائل الفن والسياسة التي تختلط بالتاريخ فتصنع مزيجها الخاص.

تُقدِّم ميسون القاسمي صورًا سردية حية لواقعٍ تحلَّل بحكم الزمن ولا يمكن إعادته ولا تذوقه، وهي في هذا العمل المهم والشامل تسعى إلى تثبيت اللحظة بجمالها لفترةٍ أطول، وتستعرض الحكاية التي تأخذ أسطوريتها من تعدُّد طرق سردها.

الكتاب، إذن، وثيقة نادرة زاخرة بالمعلومات والمصادر والصور، عن قطعة من أرض مصر (منطقة وسط البلد ككل وليس مقهى "ريش" فحسب) وفترة زمنية ممتدة من عمر هذا البلد، حتى إن القارئ بوسعه أن يعتبر الكتاب الذي بين يديه العُمدة في مجاله والشامل في موضوعه.

ليس أمامك سوى أن تنظر بعين التقدير إلى الجهد الهائل الذي بذلته الباحثة لجمع مادة كتابها، فقد استغرق منها حوالي ثمانية أعوام؛ إذ بدأت منذ العام 2013 بمسحٍ كامل لمعظم الجرائد والمجلات الورقية لدى مالك مقهى "ريش"، مجدي عبدالملاك (توفي عام 2015)، وعمل تصوير ضوئي لكلٍ منها، كصورة يمكن حفظها إلكترونيًا بدلًا من الورق المعرض للتلف، ثم كتبت كل ورقة منها مرة أخرى بشكلٍ واضح على برنامج "وورد" حتى يتسنى قراءتها وطباعتها وأخذ نسخ ومقتطفات منها، وكان عدد ما كتب 173 موضوعًا. أجرت الباحثة بعد ذلك مسحًا إلكترونيًا شاملًا لكل ما يتعلق بمقهى "ريش" أو مطعم مقهى "ريش" وحفظت منه أيضًا نسخة إلكترونية كصورة للموقع، ووضع رابط يُذهب إليه مباشرة وحفظته، وكان عدد هذه المواقع 112 موقعًا.

في مرحلة لاحقة، بدأت ميسون صقر في البحث عن الصور وحفظها، وشرعت في تقسيم المادة إلى: سيرة مكان، مقهى "ريش" الثقافي، ليالي الفن، مقهى "ريش" الاجتماعي، ثم وضعت جزءًا عن مطعم مقهى "ريش"، وآخر عن أرشيف مقهى "ريش". بدأت بعد ذلك في تقسيم كل قسم إلى أقسام أخرى، ففي سيرة مكان مثلًا قسّمته إلى أربعة أقسام، تاريخ مقهى "ريش" ترميم وافتتاح مقهى "ريش"، واستعادة مقهى "ريش"، وكتبت في كلٍ منها شرحًا لأهمية كل قسم وما فيه من محتويات.

لا عجب، إذن، أن يخرج الكتاب في صور أرشيف شامل للحياة الثقافية والاجتماعية في القاهرة، وأن يضم طبقات متعددة للحكي، وخاصة حين تتطرق الباحثة (من بداية الجزء الثالث إلى نهاية الكتاب) إلى عالم المقاهي، انطلاقًا من تاريخها المتمثل فيما حدث من حراك وفاعليات فنية وسياسية وفكرية في الحياة المصرية.

تاريخ حي داخل المقاهي ووسط جدرانها، تتحدث عنه الباحثة في إطار تناولها للبناء والحياة اليومية في مصر عمومًا، والقاهرة على وجه الخصوص، بما فيها من شوارع واسعة وبنايات متعددة الطوابق ذات جماليات أخرى وتفاصيل مختلفة ومقاهٍ ومحال حديثة تتوجه لزبائن مختلفين.

لا تغفل الباحثة عن التاريخ، وتركز على مقهى "ريش" الذي نراه على الدوام مثل مشطٍ في ليل القاهرة، يصفف شعر منطقة وسط البلد بأناقةٍ تليق بها وبه. تشير ميسون صقر إلى ترك صاحب مقهى "ريش" القاهرة لاستدعائه في بلده كي يشارك في الحرب (خلال الحرب العالمية الأولى وتقسيم البلدان العربية بعدها بين بريطانيا وفرنسا، كان صاحب المقهى هنري ريسينييه فرنسيًا وكانت القاهرة تابعة للاحتلال البريطاني آنذاك)، وتتكلم عن بيع المقهى لآخر في فترة الثورات، أو ترك بعضهم مع خروج الإنجليز وإعلان الملكية، أو ترك البعض الآخر مع التأميم، أو وجود صاحب مقهى من جنسية ويعتبر رعية دولة أخرى (إنجليزية لليونانيين في فترة خروج العثمانيين من المشهد المصري)، أو اشتراك رواد المقهى في تظاهرات أو بيانات سياسية، وغيرها من الأحداث.

ينطبق ذلك أيضًا على تحول المقهى مع تحول الشأن العام والقوانين والأوضاع، فتوقف النشاط الفني في أثناء الحرب أو وجود الحلفاء قرب المقهى أو تحول أنشطة المقهى الفنية إلى ثقافية بحتة مع بيع المسرح وترك صاحبه المغرم بالفن، أو تغير الميل مع ثورة 1952 للثقافة والسياسة.. أو إغلاق الأماكن المفتوحة من المقهى وتحوله من مقهى من المقاهي الأجنبية إلى مقهى ومطعم مع تغيّر شروط المقاهي وإلغاء المقهى الأجنبي.

ولا تنسى مؤلفة الكتاب الحديث عن مقهى "ريش" بوصفه مقرًا لتجمُع العرب والسياسيين واللاجئين، من الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين إلى قحطان الشعبي، الذي أصبح عام 1967 أول رئيس لجمهورية اليمن الشعبية، وعبدالفتاح إسماعيل الذي أصبح رابع رئيس لها عام 1978، وقائد الثورة اليمنية عبدالله السلّال، والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وكذا صلاح خلف (أبو إياد)، وغيرهم الكثير.

في هذا السِفر الكبير، تستنطق ميسون صقر المروي وتعيد أو تستعيد الحكايات بشغف محبٍّ يبحث لا عن الجديد، ولكن عن الاختلافات في كل حكاية.

هنا المقهى هو البيت، ووسط البلد هي المزار، والقاهرة هي روح الوطن؛ لهذا كله فإن "مقهى ريش" يستحق الاحتفاء.

إعلان