لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

حافلة النسيان.. "قصة قصيرة"

د.هشام عطية عبد المقصود

حافلة النسيان.. "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
07:01 م الجمعة 02 ديسمبر 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

وجدتها واقفة عند مدخل البيت تستند على الجدار، توقفت قليلا ثم بدأت تمضي إلى الداخل، تذكرتها فورا، بالتأكيد هي جارتنا القديمة ومدرسة العلوم في مدرستي الابتدائية، أشياء جدّت على مظهرها ومشيتها، حتى قامتها صارت أقصر، أو هذا ما يبدو لى الآن، انحناءة الظهر واضحة، اقتربت منها حتى صرت إلى جوارها، تأملتها ثانية، هي ذات الوجه الذي اعتاد الابتسام لنا كل صباح كما تستدعيه ذاكرتي، زجاج النظارة زادت مساحته كثيرا حتى غطى كامل العينين وبعض ما حولهما.

قمت بتحيتها فمدّت يدها وسلمت عليّ في اللحظة التي أقول فيها: "عارفاني حضرتك" نظرت نحوي صامتة مترددة كمن يتحاشى حرجا صنعه النسيان ثم قالت: طبعا، أعدت تذكيرها بنفسي بينما تتأملني صامتة، ثم واصلت هي التحرك ببطء ويدها ممتدة نحوي معلقة في الهواء كأنما تريد أن تمسك بيدي لأصل بها إلى حيث الكرسي الموضوع ملاصقا لمقدمة المنضدة في تلك الشقة الأرضية.

ظهرت امرأة نحيفة، هناك في نهاية الصالة الممتدة، كانت تنظر نحونا منتظرة انتهاء حديثنا، ثم سعت تخطو في اتجاهنا لتمسك بيدها، فأشارت هي لها بأن لا ضرورة، ودعتني إلى الدخول، حاولت الاعتذار، ثم حين ألحت، وافقتُ، صاحبتها نمشي على مهل، وضعت حقيبة يدها الكبيرة على المنضدة، أشارت لى أن أجلس، ترددتُ، ثم أخذتُ كرسيا موضوعا إلى جوار النافذة وجلستُ أمامها، وحين أصبحت في مواجهتها تماما بانت كل آثار السنوات الفائتة البعيدة على ملامحها، كان بروز العروق في ظاهر كف اليد ممتدا منتفخا، ثم تبدى لون واضح محدد أخذ كامل مساحة أعلى الجفنين، فبان غريبا ولا ينتمي إلى ذات الوجه.

طلبتْ من المرأة الواقفة أن تصنع لها فنجان قهوة وأكدت: "مظبوطة"، واعتذرتُ بعدم رغبتي في تناول شيء، وأضفت مواجها تكرار طلبها "طيب خليها من فضلك بعد شويه"، راحت عيونها تحدق بتركيز تبحث في داخل حقيبتها الموضوعة على المنضدة، الحقيبة التي تحتوى على أشياء عديدة متناثرة، أخذت تستخرجها وتعيدها حتى عثرت على ورقة صغيرة، نظرت نحوي وقالت: "أخبار الأهل إيه؟"، ومضيفة: "معلش أصل بقالى كتير غايبة"، تحدثتُ في إيجاز كلاما عاما مطمئنا، وسألتها عن أحوالها وصحتها، قالت: "الحمد لله ماشية"، واستمرت هى في سد فجوات ما حدث خلال السنوات الماضية التي غابت فيها بأسئلة وإجابات تصنعهما وحدها وقليل من استفسارات، وهى تجتهد في محاولة تذكر بعض أسماء الشخصيات التي تريد السؤال عنها أو ترد في ردي المقتضب عليها.

كان غيابها طويلا حتى بدت الآن مثل ذكرى مشوشة في المكان أو صورة قديمة منسية على الجدار وقد مالت قليلا بفعل تآكل حامل الحائط، "ممكن أشرب" قالت تسألني وهى تشير إلى الماء أمامي على المنضدة، مددتُ يدي بزجاجة الماء الموضوعة في متناولي "تفضلي"، شكرتني مبتسمة.

أنظر نحوها وأفكر لازالت حاضرة بعض أشيائها اللصيقة بها التي عرفناها بها أطفالا، الخاتم الكبير، إطار النظارة البني المستدير، حقيبة اليد المفتوحة الممتلئة بالأشياء، وربما هو ذات الحذاء الذي يعلوه ما يشبه زهرة صغيرة ذهبية اللون، أعادني حديثها طفلا إلى أحداث أوشكت على أن أنساها، حين كنت أراها وزوجها كل صباح فى البلكونة الصغيرة يحتسيان القهوة، وحين يأتيان معا إلى منزل أسرتي ويبدأ الحديث الذي نجلس على أطرافه مستمعين ومن دون أن نتدخل، فقط ننصت ونبتسم حين تتوجه عيونهما بغتة نحونا، نستمع لقصص السفر للبلاد البعيدة وحكايات الناس الذين قابلوهما هناك، كان ذلك يشبه أول شاشة عرض سينمائي للحياة كما تجرى في الخارج، حكايات عن الدنيا التي هي بعيدة عن شوارعنا وعن حينا وعن حياتنا أيضا.

كانت تقدم لنا قطع الشيكولاته تخرجها من حقيبتها وهى تحكي أو تقرأ معنا قصصا مصورة جلبتها لنا، كان زوجها رجلا قليل الكلام وكنا نعرف من حديث الجيران أنه يغار عليها كثيرا ولا يفارقها، ومع مرور الوقت كنا نسمعهم يتهامسون بأن "أستاذة سعاد " وزوجها صارا يشبهان بعضهما تماما، فنتأملهما ونعتقد ذلك معهم.

سنوات مضت وسافرت هى بعيدا حين مات زوجها، ثم هى الآن تعود، تقول أنها رحلت حيث هناك، في بلاد استقر فيها بعض من أفراد عائلتها الذين هاجروا، وعادت منذ أسبوعين، وقررت أن تفتح شقتها القديمة وأيضا تزور "حبايبها" كما تصف من تتذكرهم من الجيران والذين لم يعد أكثرهم موجودين، لم تعد تحكي الآن قصصا عرفتها صغيرا، صارت تقول أشياء كثيرة متفرقة وتواصل الكلام ولا أقاطعها، وحين تعيد فتح حقيبتها أرى صورة زوجها فى إطار زجاجي صغير محفوظ بعناية، وحين تلمحني أنظر الى صورته، تقول: "حاجات كتير غابت"، أومأتُ موافقًا بينما يمتد سكون أول الليل يظلل المكان.

إعلان

إعلان

إعلان