إعلان

الثقافة والتقدم

د.غادة موسى

الثقافة والتقدم

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

07:30 م السبت 10 ديسمبر 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول


عادة ما يتم التركيز في مناقشة التقدم والتنمية والعمل على تحقيقها العوامل والعناصر المادية كرأس المال والمواد الخام والخطط والموازنات والنقود...إلخ؛ دون الاهتمام الكافي بالبعد الثقافي.

وتشمل الثقافة القيم والعادات والتقاليد والتوجهات والدين والأعراف والتاريخ واللغة.

وتطالعنا الكتابات الفلسفية والسياسية والاجتماعية عن فلاسفة ربطوا تحقيق التقدم بشرط وجود ثقافة ما. حيث وجدوا ضرورة وجود روح تدفع وتحفز التقدم. وبدونها لن تتقدم المجتمعات لا في شقها الاجتماعي ولا الاقتصادي. والبعض أطلق عليها ثقافة التقدم، والبعض الآخر سماها روح التقدم.

ويعتبر عالم الاجتماع الألماني "ماكس فيبر" هو أشهر من أرجع تراكم الثروة ورأس المال إلى وجود روح ما، وأطلق عليها الروح البروتستانتية نسبة إلى حركة الإصلاح الديني التي شهدتها أوروبا في القرن السابع عشر على يد القس مارتن لوثر. وقد سماها فيبر " الأخلاق البروتستانتية"، حيث رأى أن هناك خصائص معينة في الأخلاق البروتستانتية تدفع نحو التقدم. وهذه الأخلاق تدعو إلى العمل دون انتظار الربح. حيث تشير الأخلاق البروتستانتية إلى أن الانسان يحقق حريته عندما يعمل بشكل جيد وعندما يستخدم عائد عمله في البقاء دون إسراف باعتبار أن العمل هو الوسيلة الوحيدة التي تقربه إلى الله. أما بالنسبة للأرباح المتحققة من العمل، فلابد من ادخارها. وهكذا تمكنت أوروبا على مدى ثلاثة قرون منذ قيام الحركة البروتستانتية من تحقيق تراكم رأسمالي كبير مكنها من توفير متطلبات التقدم التكنولوجي ومن ثم تحقيق ثروة صناعية كبرى. وفي ذلك تأثر " فيبر" بالمفكر الأمريكي " بنجامين فرانكلين" الذي كتب كتاب " الطريق إلى الثروة وتحقيق الفضيلة" قبل الثورة الصناعية. حيث وجد "فرانكلين" أن عدم احترام الوقت يقود إلى الفقر. كما أن الاسراف في النوم والانفاق غير المبرر لا يقود إلى تحقيق ثروة. وإنما العمل الجاد فقط هو ما يقود نحو تراكم رأس المال.

هذا على الجانب الأوروبي. ولكن في ذات الاتجاه تم تفسير التقدم الحادث في دول شرق آسيا، وتحديداً الصين بوجود ما يُعرف بالثقافة الكونفوشيوسية نسبة إلى المفكر والحكيم " كونفوشيوس".

فعلى الرغم من ظهور العديد من المدارس الفكرية الصينية، ودخول العديد من الأديان إلى الصين. لكن الكونفوشيوسية كانت الأكثر تأثيرا في الثقافة الصينية. ورغم المعارضة القوية التي واجهت الكونفوشيوسية في فترات من التاريخ الصيني الحديث، إلا أن أفكار كونفوشيوس كانت أكثر تغلغلا وتمترسا في الطبقات العميقة للثقافة الصينية وفي وعي الصينيين. واستطاعت أفكار كونفوشيوس أن تعيش وتؤثر في الصين المعاصرة، سواء من خلال العادات والتقاليد، أو تيارات "الكونفوشيوسية الجديدة"، أو من خلال الجدل المستمر الذي تثيره أفكار كونفوشيوس بين المثقفين. وعلى المستوى الرسمي، كان تأسيس الصين لـ "معاهد كونفوشيوس" في مختلف أنحاء العالم، اعترافا من الصين المعاصرة بمكانة هذا الحكيم.

وقد استطاع الصينيون على مدى آلاف السنين أن يشكّلوا ثقافة متميزة. حيث كانت الثقافة الصينية بمثابة الزاد الروحي الذي تتسلح به الأمة الصينية في رحلة تقدمها. إلى جانب اللغة المشتركة والمجال الجغرافي المشترك والحركة الاقتصادية المشتركة وغيرها من العوامل الموحدة لأي أمة، وتسمى بال "الخصائص النفسية المشتركة". فمن جهة، هناك أسسا مادية مرتبطة بالحركة الاقتصادية أسهمت في تكونها. ومن جهة ثانية، هناك أسسا فكرية ذات ارتباط وثيق بالتربية الاجتماعية. وهذه "الخصائص النفسية المشتركة" التي تعبر عنها الثقافة الكونفوشوسية، تتشكل تدريجيا من خلال توجيهات وتربية مفكرين ومعلّمين كبار لهم بصمتهم العميقة في الثقافة.

وهناك ثلاثة عناصر رئيسية أو مكونات في أفكار كونفوشيوس شكلت الأرضية الفكرية لتطور الثقافة الصينية، وهي، الروح العملية؛ والإعلاء من شأن الأخلاق؛ وإرساء تقاليد تقدير التجربة التاريخية.

وكل ما سبق لا يعني أن منطقتنا الشرق أوسطية لم تحظ بنفس التقدم الذي ساد ويسود في الغرب وفي الصين بسبب غياب الروح الدافعة للتقدم، لأن العكس هو الصحيح تماماً. لكننا في حاجة إلى عودة تلك الروح وإحيائها من خلال التركيز على البعد الثقافي للتقدم لأنه هو الروح الدافعة نحو التقدم المادي.

إعلان