إعلان

نبيل عمر يكتب: كلهم فاسدون إلا قليلاً!

نبيل عمر

نبيل عمر يكتب: كلهم فاسدون إلا قليلاً!

نبيل عمر
05:01 م الأربعاء 05 يناير 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول


أتصور أن مجدي الجلاد كان متحاملاً على نفسه وعلى الإعلاميين من مذيعين وصحفيين أكثر من اللازم، وهو يناقش في مقاله الرائع "كلنا فاسدون" ما قاله المذيع اللامع عمرو أديب في برنامجه عن اتجاهات الناس في المشاهدة والمتابعة، بأنهم يفضلون التسلية الفجّة والنميمة في مواقع الأخبار والوقائع والفيديوهات، وخلص عمرو إلى عبارة شائعة من زمن ًبعيد "الناس عايزة كدة"، مبررا غياب البرامج الجادة عن الفضائيات إلى حد بعيد.

قطعًا شجاعة من مجدي الجلاد أن يرفع يده أمام الرأي العام ويعترف: كلنا فاسدون، ومحملًا المذيعين والصحفيين أسباب ارتباك المشهد الإعلامي وتخبطه وانحداره، لكنها شجاعة تجاوزت الواقع، وتشبه موقف أحمد زكي في فيلم (ضد الحكومة) مترافعًا في مشهد النهاية: كلنا فاسدون، كما لو أن بيئة الفساد من صناعته وليس مجرد لاعب فيها، بينما الفساد هو تراكم أفعال معوجّة لفترات طويلة، تفرض نفسها على الواقع حتى تجعله شيئا عاديا يمارسه كثيرون من الناس علانية أو سراً دون خجل أو وخزة ضمير؛ لأنه بات ثقافة سائدة في المجتمع، والفساد الأشرس ليس سرقة أموال عامة أو نهبها فحسب، إنما فساد النظام العام، والنظام العام هو أداة لإدارة حياة الناس في كل أوجه الأنشطة، في الشارع وعلى الشواطئ والمقاهي والعمل والمحاكم والزواج والطلاق والإعلام... إلخ، لأن المال مهما نُهِب بأي طريقة ومهما كان حجمه، فيمكن تعويضه، لكن فساد النظام العام يفسد عقل البشر وتصرفاتهم الخاصة والعامة ويرتكبونه كما يتنفسون ويتناسلون، ويشد الآخرين إلى الالتحاق به، فيزداد الفاسدون عزوة وقوة، وهنا يصعب جدا مقاومة الفساد أو الحد منه.. إلا بعملية بتر حادة وطفرة مجتمعية شاملة في النظام العام والقانون تنفيذًا وإجراءات، لا يملك إمكاناتها إلا السلطة الحاكمة ووفق خطة شاملة تستغرق بضع سنوات.

نعود إلى الإعلام.. قطعاً يتحمل المذيعون والصحفيون بعض المسؤولية وبعض الفساد، لأنهم لم يقاوموا البيئة التي انزلقوا إليها واستسلموا لها، وضعفهم له تبرير قد نفهمه لكن لا نقبله، وهو لقمة العيش الراغدة والشهرة والواسعة التي تمنحهم نفوذًا في المجتمع، يشبه نفوذ السلطة التنفيذية إلى حد كبير.
والسؤال: من الذي يصنع البيئة التي يعمل فيها هؤلاء المذيعون والصحفيون؟
قبل أن أجيب على السؤال، دعوني أروِ لكم حكاية طريفة..
دخلت يومًا على رئيس تحرير جريدة قومية، ورحنا نتحدث عن أحوال الصحافة العامة وكيف تدهورت إلى حد قارب على الإغلاق، فقال لي: عندي محرر لم يقدم عملا منذ شهور، يحضر، يوقع، يجلس يشرب شايا وقهوة، يدردش مع زملائه، ثم يغادر.
سألته: هل أرسلت له تنبيهًا أو إنذارًا رسميًا؟
قال: تكلمت معه شفاهة أكثر من مرة، وكل مرة يوعدني، ولا يعمل.
سألته: ولماذا تتحدث معه دون عقاب ولا تطبق قانون العمل؟
أجاب: ستحدث دوشة ونقابة وتدخلات وأشياء أخرى.
باختصار رئيس التحرير لا يريد أن يقال إن جريدته فيها مشكلات وأزمات، حتى تبدو الدنيا هادئة مستقرة دون توترات، ويعتقد أن هدوء الأحوال وليس كفاءة العمل هي معيار دوامه في منصبه.
وطبعًا هي تقاليد تعمل بها الصحافة المصرية منذ عشرات السنين، وتبخرت معها فكرة الكفاءة والموهبة والقدرات الخاصة والمتميزة بالتدريج، لتحل محلها أسباب لا علاقة لها بالمهنة، تراها الجهات المسؤولة عن الصحف العامة بأنها الأجدر بالرعاية والاهتمام وفتح كل السبل أمام أصحابها إلى المناصب الرفيعة.
قطعا لكل قاعدة شواذ، وإلا كانت انهارت الصحف قبل عشرين سنة.
ندع الصحافة في أحوالها المائلة ونذهب إلى الإعلام المرئي، لكن الفكرة الحاكمة واحدة، ماذا يريد الإعلام؟
بالتأكيد أهداف الإعلام الخاص غير أهداف الإعلام العام..
من أول قناة تليفزيونية خاصة اتضح أن صاحبها لا يستهدف إعلاما ولا وعيا ولا ثقافة ولا دورا كبيرا أو صغيرا في تنمية مجتمعه، وإنما كان يسعى إلى امتلاك ترسانة تدافع عنه وتهاجم خصومه وتصنع له نفوذا أمام السلطات العامة، تحميه من تغولها على مشروعاته وأعماله.. والهدف الاستراتيجي هو الذي يصنع السياسة الإعلامية، ويأتي صاحب القناة بمن ينفذ هذه السياسة، وهو بدوره يختار المذيعين والبرامج، وشيء طبيعي جدا أن تأتي التسلية على رأس أولويات البرامج، التسلية التي تجلب المشاهدين والإعلانات بالتبعية، وتتداخل معها برامج سياسية لها أنياب وأظافر تلعب مع الحكومة صعودا وهبوطا..
ولا يستهدف صاحب القناة ربحا أو حتى توازنا بين المصروفات والإيرادات، بقدر ما تمنحه القناة من نفوذ وقوة.. فتراكمت الديون عليها جميعا.
وهنا تلعب وكالات الإعلانات دورا مهما في فرض مذيعين والارتفاع بهم، وهؤلاء المذيعون لهم قدرة هائلة على مد روابط العلاقات العامة مع أيدٍ حاكمة في هذه الوكالات تضمن وجودهم من قناة إلى قناة.
بالطبع أي أفكار عن التنمية والتنوير وبناء الوعي لا تخطر على بال صاحب القناة أو مديرها، وقد يدافعون عن أنفسهم قائلين: مثلنا مثل الفضائيات الخاصة في دول كثيرة في أوروبا وأمريكا، وهذا تبرير غبي، لأن أوروبا وأمريكا دول متقدمة، مواطنوها انتقلوا إلى العصر الحديث ثقافةً وعقلاً منذ أكثر من مائتي سنة، قدراتهم على تجاوز التسلية الفجة والنميمة والتفاهة أبعد بفراسخ عن قدرات مواطني العالم الثالث على هذا التمييز والتجاوز، وهم أيضا يملكون منظومة القيم التي بناها التطور المعرفي والصناعي، مثل إعلاء قيمة الإتقان والجدية والمثابرة واحترام الوقت، تقدير الآخر أياً كان لونه وجنسه وديانته... إلخ.
يبقى الإعلام الرسمي، الذي تشرف عليه الحكومة بشكل مباشر أو تحت غطاء شفاف كأننا لا نرى أصابعها وهي تحرك العرائس، صحيح أن التنمية والتنوير وبناء الوعي من ضمن أهدافه، لكن هدفه الأسمى هو "الحشد"، حشد الرأي العام وراء الحكومة، قرارات وسياسات وتصرفات ومنهجًا في التفكير والتنفيذ.
ولا ينتبه مالكو هذا الإعلام إلى التناقض بين فكرتين: حشد الجماهير ورفع مستوى وعيهم، الحشد يسعى إلى بناء الوعى في اتجاهات معينة، وهذا مستحيل في عصر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي وفضائيات معادية تبث سموماً طول الوقت ضد الوطن.
طبعا الحشد مهم في وقت يتعرض فيه الوطن لمؤامرات على أرض الواقع وفي الفضائيات وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، لكن لم يصل مديرو القنوات الرسمية إلى الصيغة الصحيحة إليه، ويتصورون أن كثافة المادة التي تدغدغ مشاعر المواطن وطنيا هي المراد من رب العباد، وهذا مفهوم بعيد عن الواقع وعن طبيعة البشر، مثلا إحساس الناس بالتحول في حياتهم إلى الأحسن يفوق قدرة أي برنامج على إقناعهم بذلك، كما حدث في السنوات الأخيرة قبل 25 يناير 2011، كل الحكوميين وقتها تحدثوا عن عجز الإعلام الرسمي عن ملاحقة التنمية الاقتصادية التي حدثت في سنوات الدكتور أحمد نظيف رئيس الوزراء، وكان التطور كبيرا ومستمرا فعلا لكن عوائد التنمية لم تهبط إلى جيوب عموم المصريين، فلم يشعر بها الناس.
الحشد يحتاج إلى أدوات ناعمة مقنعة وفنية، وليس برامج تقريرية مباشرة تشبه البرامج التعليمية.
أما نمو الوعي فهو يتطلب شفافية ومساحة من الحرية والاختلاف والنقد، لأن تصارع الأفكار والرؤى هو الذي يصنع العقل القادر على تشكيل الرأي الأقرب إلى الصحة، لكن فيه مدرسة ترى في الاختلاف والحرية والنقد تحريضا لا يجب السماح به، وهي مدرسة ثبت بُعدها عن حقائق التاريخ في كل تجارب الإنسانية.
وفي النهاية سبح الإعلام الرسمي في نفس البركة، التسلية والبرامج الرياضية النافخة في نار التعصب، والبرامج التقريرية المباشرة وقليل من البرامج الجادة التي لها جاذبية.
إذن بيئة الإعلام هي المسؤول الأول عن حالة الارتباك والتخبط والانحدار، وهذا لا يعفي المذيعين والصحفيين من المسؤولية، لكن أقل بكثير من البيئة وأصحابها.
وبالقطع أتفق مع مجدي الجلاد.. يجب أن نقدم للناس ما يفيدهم وليس ما يريدونه أيًا كان.

إعلان