لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

لغز «آل ساويرس»..!

الكاتب الصحفي مجدي الجلاد

لغز «آل ساويرس»..!

مجدي الجلاد
07:28 م الأربعاء 08 سبتمبر 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بعد رحيل «أنسي ساويرس» عميد العائلة الشهيرة.. سألني الكثيرون ممن يتلمّسون طريق النجاح: ما سر هذه العائلة؟! ربما بحكم قربي الوثيق منها.. أو بحثاً عن إجابة شافية لسؤال أكثر عُمقاً: من أين وكيف نبدأ؟!

لذا.. فإن هذه السطور ليست مرثية لرجل صاحب تجربة نادرة.. فقد رثيناه وواسينا ذويه.. وإنما هي وقفة تحليلية متواضعة أمام سؤال العصر في أذهان ونفوس أجيال تغيب عنهم خبرة البدايات..!

السؤال في حد ذاته صعب، في زمن تندر فيه القدوة، وتعز فيه النماذج الجليّة للكفاح والتحدي، ولِمَ لا وقد تسيّد المشهد وعلا وارتفع أصحاب الهمة في الفهلوة والتلوّن والكسب السريع؟! وللحق أشعر دائماً بعدم جدوى الكلام النمطي في إقناع شباب اليوم؛ لذا ربما يكون مناسباً أن نُجسّد لهم القيم، ونرسم لهم الطريق، عبر القصص الحية لشخصيات ولدت من ذات الرحم، وعاشت على نفس الأرض..!

في كل قصة، شيء ما يقف وراء التفوق والعبقرية.. يسميه البعض «مفتاح الشخصية».. ويسميه آخرون «سر الحياة».. وهو يختلف من شخص لآخر.. لذا فأنت بحاجة دائمة للغوص في أعماق وتفاصيل التجربة، لتتمكن من اكتشاف سرها ومُفتاحها..!

إنها قصة حياة أنسي ساويرس، التي أجهدتني ذهنياً وشعورياً.. قطعت رحلة غوص صعبة، كي أسبر أغوارها، وأقترب من «مفتاحها»، ولكنني شعرت بالمتعة مضاعفة.. إذ تعلمت منها الكثير، وظني أن فهم هذه الشخصية، سوف يرسم للأجيال الشابة نموذجاً شديد الوضوح للنجاح، مهما كانت المعوقات..!

عفواً.. نسيت أن أقول لكم إنني ذكرت اسمه دون لقب «رجل الأعمال» أو «المهندس» أو... أو....، لأنني- في رحلة البحث- توقفت طويلاً أمام أنسي ساويرس الإنسان.. الرجل المصري القادم من سوهاج، الذي تجاوز في تجربة حياته زوايا نظرتنا للأثرياء وكبار رجال الأعمال.. فكيف نختزل قصته المُلهمة، في إحصاء الممتلكات وحصر الشركات والمليارات؟!.. ثمة ما هو أعمق في حياته، سيكون مُفيداً أن نتعلمه..!

في يقيني، أن سر الأسرار في تفرد حياة ساويرس الأب، عبقريته في أن يُحيل النهايات دائماً إلى بدايات جديدة.. ففي كل مرة كان بمقدور كاتب قصته، وبضمير مرتاح، أن يكتب كلمة «النهاية»، ويطوي أوراقه، ويُغادر إلى قصة أخرى.. إلا أن «أنسي» وحده، كان يقول «لا.. فالقصة لها بقية، ومن رحم النهاية ستولد بداية جديدة.. لن أموت إلا واقفاً، ومن بعدي رجال، يواصلون التجربة، بمفتاحها النادر، ويتخذون لها شعاراً هو سر أسرار عميد العائلة: النهاية هي في الأصل بداية جديدة..!

لذا.. كان منطقياً أن يكون لكلمة «لا» معنى آخر عند أنسي وأبنائه وأحفاده.. علّمهم الرجل أن الحياة تحديات وصعاب.. ولابد من التمرد على الاستسلام والراحة في حضن العجز، أو الهروب من المعركة بـ«دور الضحية».. وعلّمهم أن «لا» كلمة ليست ممقوتة في كل المواقف.. ثمة لحظات عليك أن تحسمها بـ«لا»..!

و«لاءات آل ساويرس» كثيرة، ولكنها ليست ضد أفكار ومبادئ وممارسات فحسب، وإنما أيضاً رفضاً للطريق الذي يدفعهم غيرهم نحوه، أو الظروف التي تبدو للبعض ملاذاً آمناً ومُبرراً منطقياً، وتتحول لدى آخرين إلى نقطة انطلاقة جديدة، أو الإقلاع صوب فضاءات أكثر رحابة.. وهذا السر الثاني في «عبقرية أنسي المؤسس».. إذ لم يمنح الرجل أبناءه- نجيب وناصف وسميح- المليارات لزوم حياة البذخ، وإنما أرشد كل واحد من الثلاثة إلى طريق سيأخذه إلى «نقطة»، والنقطة ستلتقي حتماً بأخواتها، لترسم حدود « إمبراطورية آل ساويرس»..!

قال أنسي «لا» قبل 70 عاماً، حين كانت الحياة في مصر، بالأبيض والأسود..!.. وكان تراب الميري ثقافة مجتمع.. وأرض الوالد كبيرة.. فلماذا لا يلتحق أنسي بكلية الزراعة لرعايتها؟!

كلام منطقي، وطريق سهل سار فيه الملايين، ولكن أنسي امتلك «شجاعة الحقيقة»، فغادر أرض الوالد وهو يردد مقولته الشهيرة «الأرض لمن يزرعها»، وبدأ رحلة كفاح صعبة: شركة صغيرة «لمعي وأنسي» مع المقاول لمعي يعقوب، تبني عمارة والده في سوهاج، ثم تحفر آبارًا ارتوازية في الصعيد.. وكان «أنسي» الشاب يرتدي «الخوذة» مع العمال.. تلك «الخوذة» التي ربّى عليها أبناءه، في المواقع؛ إذ لا يجوز في منهج «أنسي» أن يستند أحدهم على أموال الوالد، وعليه أن يعيش حياة «المهندس الشاب» بمرتب متواضع، بل ويعمل في المطاعم ومحطات البنزين في بلاد الغربة، ليوفر جزءاً من مصروفات الدراسة والحياة في حدها الأدنى..!

من مِنا يفعل ذلك الآن مع أبنائه..؟!!

نجح الشاب «أنسي»، وكبرت شركته، وانتقلت إلى القاهرة.. غير أن عاصفة التأميم طالتها.. وكان بمقدوره أن يعمل في الشركة مثل كثيرين، غير أنه قال «لا» مرة أخرى، وجعل نهاية شركته بداية جديدة، فسافر إلى ليبيا وعمل مقاولاً في مدرسة تجارية مختلفة، قال عنها: «تعلمت من الليبيين الكثير.. كانت المرحلة الأهم على الإطلاق، وبمثابة مدرسة في الحياة»..!

عاش هناك دون أسرته 12 عاماً، وحين أطلق السادات سياسة الانفتاح الاقتصادي، وفتح أبواب الاستثمار أمام القطاع الخاص، عاد «أنسي» إلى القاهرة عام 1977 وأسّس شركة «أوراسكوم للمقاولات العامة والتجارة».. ليكتب عميد العائلة بداية جديدة لعملاق اسمه «أوراسكوم»..!
كم شخصاً بيننا، يقرر بإرادته ترك أملاك والده، وحياة الراحة المادية، ويزرع نفسه وحيداً تحت أشعة الشمس الحارقة، في صحراء ليبيا، ليضع أساساً قوياً لإمبراطورية يصعب أن تتكرر؟!

حكى لي نجيب ساويرس أن ابنه «أنسي» كان يعمل في أمريكا أثناء دراسته، ليوفر لنفسه ما يزيد عن «المصروف» المُحدد.. وإن أراد أن يشتري شيئاً إضافياً، عليه أن يشتريه من عمله.. لم أتعجب بعد ذلك، حين رأيت «أنسي الحفيد» يُشارك بقوة وكفاءة في إدارة شركاتهم.. والأهم أن شقيقي «نجيب» ناصف وسميح يفعلان نفس الشىء.. إنها مبادئ عائلة، أو «خلطة عيلة»..!

سمّها ما شئت.. ولكن حاول أن تتعلم منها درس الحياة؛ لا شئ يأتي بالصدفة..!

إعلان