لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

البدائل العصرية للحياة "التقليدية"..

د.هشام عطية عبد المقصود

البدائل العصرية للحياة "التقليدية"..

د. هشام عطية عبد المقصود
10:49 م الجمعة 17 سبتمبر 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يحيا البشر على وجه تويتر والفيس بوك، عبر الشاشات ما صغر منها وما كبر، يحكون، ويتونّسون، يبكون ويضحكون، يحبون ويكرهون، وأثناء كل ذلك يأكلون ويشربون، ثم "يُشيّرون" كل ذلك ما استطاعوا إلى التشيير سبيلاً، يمضون بينما يكتبون وقائع حياتهم على الهواء ولحظة بلحظة، فيصنعون مما يفعلون كل يوم سفراً كبيراً يشارك في كتابته تنوّعات الأحياء الهائمين في أنحاء الجغرافية الكونية، ليؤكد ذلك على كروية الأرض التي عاش بشر العالم قروناً ينكرون أنها مستديرة، أو ربما لم يمنحهم الخيال قدرة إدراك ذلك، حتى جاء يوم فطاروا محلّقين حول كرويتها ليثبت لديهم ما كان معلوماً من الخيال بالضرورة.

فهم ذلك ليس مُعقداً بل إن الأمر أبسط كثيرا، حيث لن تحتاج تفسيرا ضخما- كما عادة تلك التفسيرات الضخمة المتهاوية- هو فقط إرهاق الحياة الذي يصنع بدائله المسترخية أو المستجيبة لدواعي النفس وما تهوى، حين تنشد الراحة والصمت وبعض السكون، أو ربما بعض صخب وإنشغال، لكنه جميعه تحت إدارة وسيطرة الشخص الكاملة وكله عبر تلك شاشة الموبايل الصغيرة المضيئة محتوية الحياة شمولاً واختزالاً معاً بينما تستقر في متناول اليد.

يتصل بك قريب أو زميل هاتفياً، بينما في طريق عودتك من عملك، يحييك عن بعد فتشكره وتحييه، تكون عائداً للتو وأنت تمنّي الذات بفترة انقطاع للراحة والهدوء وربما الصمت المطبق، تحمل في عقلك بدائل تعامل مع ما تبقى من قليل الوقت في يومك هذا وقبل أن تنام استعداداً ليوم جديد، ربما تفكر في أن تقرأ شيئاً من كتاب طال انتظار أن تفك غلافه وهو له أيام ملقى إلى جوارك على المنضدة الصغيرة، ينظر عنوانه نحوك ويعاتبك على طول انتظار لقاء لم يبدأ بعد، أو ربما تقرر أن تشاهد مباراة كرة يحاول مذيعها بكل ما أوتي من قوة الحماس أن تتابعه ولو قليلا، لا بأس لن تخسر كثيرا لو استجبت لهذا الحماس المغالى فيه، وقد تتسلى أثناء المشاهدة بتجوال عبر القنوات ربما يمكن لبرنامج آخر كوميدياً أو غرائبياً أو من فئة الرسوم المتحركة أن يمنحك ما يجعلك تبقى وتتريث معه ولو قليلاً.

أشياء كثيرة يمكنك أن تفعلها عبر هذا الكائن العبقري الذي في الجوار ودوما في متناول يدك ووفق أوامرك – الهاتف المحمول– أشياء لن تتحقق باليسر ذاته في حضور قريبك أو زميلك أو جارك، حيث سيحكي وستسمع دون اختيار، سيجلس أو يقرر المبيت ولن يمكنك الاستئذان للنوم مبكرا مضطرا، كل تصرف منك لابد وأن يكسوه غلاف المجاملة الرقيقة والترحيب ربما المبالغ فيه.

أشياء كثيرة بديلة منحتها تلك الشاشات وصنعت غربة الحياة بحق رغم زحامها الذي تراه عبر زجاج ونوافذ السيارات في الشوارع، سيمنحك الهاتف اختيارات يمكن أن تفعلها دون عبء كبير وباستمتاع أكبر وبقدرات وتنوعات أكثر دهشة، مثلا سترجع من يوم عملك الطويل مرهقاً مسترخياً فتمسك بشاشة الموبايل بينما شاشة التليفزيون تدور في الخلفية تتابعها بما تيسر من زاوية عينك، وستمضي متنقلا بين عشرات المواقع والصفحات والتطبيقات والتي تعنى اختيارات لا تقف حدودها، تختار منها ما يحلو لك ويسهل الوقت عليك، ثم بضغطة زر قد تغلقها كلها دون أن تشتكي منك أو تتهمك بتجاهل أو عدم تفاعل، وقد تقرر أيضا خفض صوتها مكتفياً بمتابعة صامتة.

وقد تترك كل ذلك وتلجأ إلى منصاتك المفضلة تلتقط ما فعله البشر طوال النهار من بوستات حياتهم وتويتات أيامهم، تعرف من منهم سعد اليوم كثيرا ومن غضب أكثر، من خاصم ومن صالح ومن استفز ومن سخر، وأيضا من كمُن ليشاهد كل ذلك مراقباً في صمت.

قد تمضي متفاعلاً فتضيف "لايك" صامتاً أو "سمايل" مندهشاً، وقد تمضي أكثر فتكتب تعليقا لو كان الشخص عزيزا تماما وبما يكلفك عناء صك كلمات من أجله.

مع الوقت ستكون هذه الحيوات التي على الشاشات أيسر وأقرب وأكثر طمأنينة، وستكون كلفة ما عرفه البشر الأوائل من وقائع اللقاءات وجلسات الأصحاب مجهدة تماما لتتواصل الفجوات اتساعاً.

وهكذا تمضي الحياة ويسير في قوافلها البشر يكبرون على موجات تويتر ويصنعون الهاشتاجات، وعندما ينامون يصمتون بينما تظل تنساب الرسائل والحكايات والصور لتتكدس في انتظارهم، حتى إذا استيقظوا وغرّدوا عادوا أحياء.

إعلان