لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

عن الفئران.. والسأم والعيش أبدًا

د. هشام عطية عبد المقصود

عن الفئران.. والسأم والعيش أبدًا

د. هشام عطية عبد المقصود
07:05 م الجمعة 04 يونيو 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

هل فكرت يومًا أن تشكر فئران التجارب وكذلك الديدان والأرانب؟! تمهل فليس الأمر غريبًا أو مفارقًا إلى هذا الحد، فكم ضحت فئران التجارب بحياتها وأعمارها وهي تتيح نفسها وتُستخدم بشكل دائم لاختبار الأدوية قديمها وجديدها وتأثيراتها الجانبية، وأيضًا لتختبر مذاق وسلامة بعض الأغذية المصنعة، بل وأيضًا بعض مساحيق التجميل، ثم ما يستجد في مجال إجراء الاختبارات عليها عبر سنوات تتكثف هذه الأيام لخدمة حياة أطول للإنسان المعاصر؛ سعيًا نحو الوصول بعمره إلى الرقم 120 عامًا، ألا تستحق الفئران بعد ذلك قليلًا من الثناء!

القصة تبدأ منذ اكتشاف الإنسان الموت، ثم الدهشة والألم المصاحب له، ثم إسقاط كل ذلك على نفسه تحسرًا، والسعي نحو إبعاد شبح الفناء والنأي عن فكرة الاختفاء والزوال، وفى سياق كل ذلك حمل لنا تاريخ الأقدمين فيما قبل مراحل الأديان السماوية الأساطير والقصص ذات البدائل المتخيلة والتي تمنح للإنسان "الزائل" يقينًا بعزاء بديلًا عن مكوثه القصير نسبيًا في الأرض.

ويخبرنا الأثريون بأنه مثلًا احتفظ المصري القديم بكثير من نفائس مقتنياته بل ومشتهياته وحاجياته في مقبرته لترافقه في رحلة عودته إلى الحياة مرة أخرى يراها وشيكة، وبقيت لنا دلائل موثقة على ذلك نقوشًا وكتاباتٍ وحاجياتٍ، وكذلك فعلت بعض الحضارات القديمة بشكل مختلف وعبر تصور آخر.

أما الجديد "والواقعي" أنه وبعد عبر تجارب طبية على الفئران -ضحية البشر المألوفة- صار هناك ما يشبه تقديرًا علميًا بإمكان إدامة العمر وصولا إلى 120 عامًا أو تزيد، وهى ليست خيالات ولا أساطير بل بعض من تجارب لها أساسها العلمي ووجاهتها المنطقية، إذ قد ننسى أحيانًا بديهيات تؤكدها لنا تقارير منظمة الصحة العالمية بأن متوسط عمر الإنسان المتوقع عند الميلاد قد ارتفع في العالم منذ بداية الألفية الثالثة بمعدل خمس سنوات ونصف السنة، ثم إن النساء -وفقًا للتقرير ذاته- في كل أرجاء المعمورة هن من يعمرن أكثر.

تتوالى تلك التقديرات التي تقول إننا لسنا بصدد مفاجأة مفارقة أو شيء خارق للمألوف، ففي تقرير لموقع "بي بي سي" يؤكد على زيادة متوسط أعمار البشر عبر التاريخ الحديث، وأنه بينما بلغ متوسط عمر مواليد عام 1960، والذي هو أول عام بدأت فيه الأمم المتحدة تسجيل البيانات دوليًا من اثنين وخمسين عامًا ونصف العام، فقد بلغ متوسط العمر اليوم اثنين وسبعين عامًا بشكل عام كوني، وهذا إحصاء عام بغض النظر عن تفاوتات الدول والمجتمعات شرقًا وغربًا والذي يحمل تباينات داخل تلك المساحة العمرية زيادةً أو نقصًا، وهكذا يمكنك أن تقول إن متوسط عمر الإنسان في مختلف دول العالم زاد بما يقرب من 50%، والأمر يكمن تمامًا في منظومة الأسباب التي أمرنا الله سبحانه وتعالى باتباعها وهي السعي والبحث والكشف، عبر العلم وتجاربه واختباراته، هكذا يزداد شكرنا المستفيض للفئران التي تحملت عنا جميعًا عبء التضحية بالتجارب الأولى ونتائجها حتى تتحقق معدلات أمان تجعلها قابلة للإجراء على البشر تمهيدًا لاعتمادها دواءً وعلاجًا وغذاءً ومآرب أخرى.

أما إذا سألت ولماذا يستخدمون الفئران؟! سيبدو السؤال موحيًا بشيء كثير عن تقارب الكائنات، لكن ما يمدنا به المتخصصون يقول عن شيء من تقارب نسبى في فسيولوجيا وتشريح الأعضاء والبنية الجينية والتي جعلت من الفئران وحدها تتحمل عبء 95% من كل حيوانات التجارب المعملية ولها التحية، لكن هل قلل ذلك من نفورنا الجم منها يومًا؟!، عمومًا فقد حاول ذلك عنا عالم "ديزني" فيما قام به من تقريب سيكولوجي بين البشر والفئران في شخصياته الكرتونية الشهيرة، ولا مشكلة قط، فالفئران لا تنتظر شكرًا ولا الديدان أو الأرانب تسعى لشيء من ذلك، ربما هي ماثلة لتمنحنا بعض التواضع حين لا نمشى على الأرض هونًا.

حلم الحياة الخالية من عوارض التعب والعجز والشيخوخة تجربة إنسانية طويلة لم يغلق ملفها أبدًا، وكم بذل في سبيلها البشر فكرًا وحلمًا وجهدًا، وكم تواجد في حقلها قديمًا شغوفون وآملون وأيضًا هواة وأفَّاقُون، حتى انتقلت علميًا من مجرد التصور الحالم إلى ساحة السعي للوصول إلى محاولات إطالة الحياة ما أمكن ذلك، وعبر توفير أسباب متنوعة وحيث الفكرة لدى العلماء والباحثين تبدو دوما ممكنة، من منظور تجاوز قفزات متوسطات عمر الإنسان المتعارف عليها في العالم.

تبدو السيدة الفرنسية جين كالمان والتي عاشت 122 عاما -مسجلة وموثقة- والتي توفيت عام 1997 تحديًا ونموذجًا، فها هو قد حدث الأمر من قبل، ويمكن العمل في إطاره، ويستندون إلى أنه وفى نصف القرن الأخير فقط زادت متوسطات الأعمار المتوقعة عند الميلاد عند الغالبية العظمى من سكان جغرافية الكون شرقًا وغربًا، بتفاوتات وصلت في بعضها إلى 50% مما عاشه الإنسان قبل قرن من الزمن، طبعًا دعك من قول شائع إن هذا ليس بجديد وإن سكان الحضارات القديمة في ألفيات ما قبل الميلاد كانوا جميعًا معمرين حتى انظر إلى ضخامة تماثيلهم دالة على ذلك!، فالمتوافر من نتائج البحث الأثري والطبي على المومياوات والهياكل أن متوسطات الأعمار كانت أقل كثيرًا مما هو معاصر ويعيشه حاليًا سكان الكوكب، نعم قد يصادفك رقم لعمر أحد الملوك موثقًا في السجلات بأنه قرن من الزمان مثل الملك بيبي الثاني أو نحو تسعين عامًا مثل رمسيس الثاني، لكن غالبية البشر والعوام كانت متوسطات الأعمار تتراوح في منطقة منتصف الثلاثينات عمرًا، وخاصة من يعملون منهم في مجالات العمل الشاقة، وهكذا فإن طول عمر شخصية واحدة أو أخرى هي حالة نادرة، مما تم اكتشافه لا تعطي نتيجة قابلة للتعميم، وذلك على عكس شيوع نسب المعمرين الآن في العالم.

تفيد التجارب الحالية التي أجريت على الفئران -أعزكم الله- أنه بالإمكان زيادة متوسط عمر الفرد إلى 120 عامًا وربما خلال عقود قلائل قادمة، حيث أمكن حقن بروتين بأجسادها ترتب عليه زيادة متوسط أعمارها بمقدار الربع، يعني ذلك ببساطة أن السيدة جين كالمان لن تظل طويلًا فريدة في تاريخ البشرية وحتمًا سيلحقها ويتجاوزها آخرون.

ولعل من أهم التنويهات المرافقة لتلك التجارب والداعمة للوصول إلى هذا الهدف وحتى حينها، ما توصي به الهيئات الطبية المعنية دعمًا للهدف في الحفاظ على الحيوية ومواجهة الشيخوخة وعبر ما عرضته إحدى الدوريات العلمية المهمة "لانسيت" وهي موجهة لك بالأخص عزيزي الرجل والابن، وهي أن القيام بالأعمال المنزلية يوميًا، ولما يقرب من نصف الساعة يمد القلب بالحيوية، ويقلل من الأخطار المميتة، ويطيل من متوسطات عمر الإنسان، فهل بدأت؟ وهو بالطبع نداء لمن لم يبدأوا بعد.

ومع ذلك ومع تقدم العلم وحدوث تحققات في هذا الصدد استكمالا لسيرة بشرية معاصرة، يبقى السؤال هل تستقيم صحيًا التجربة النفسية والمزاجية للإنسان سعيدًا تزامنًا مع أن يطول عمره حتى 120 عامًا يحيا بقائمة ممنوعات وسلوكيات إرشادية صارمة فقط من أجل أن يحيا، وتظل تلك هي المسألة.

إعلان