لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

براعة أن تكون "لا أحد"

د. أحمد عمر

براعة أن تكون "لا أحد"

د. أحمد عبدالعال عمر
07:12 م الأحد 14 فبراير 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أوديسيوس هو داهية اليونايين في حرب "طروادة"، الذي روى لنا حكايته وحياته ورحلته وبطولاته الشاعر اليوناني "هوميروس" في ملحمتي "الإلياذة" و"الأوديسة"، وجعله مفكرًا استراتيجيا من الطراز الأول، وأستاذًا في فن المفاوضات ووضع الحيل، التي أسقطت في النهاية أسوار طروادة المنيعة.

يحكي لنا هوميروس أن أوديسيوس قد اغترب عن مدينته "إيثاكا" وزوجته الحبيبة الوفية "بينيلوب" لمدة عشرين عامًا، قضى السنوات العشرة الأولى منها في حصار وحرب "طروادة". وقضى السنوات العشرة الثانية في طريق عودته بعد انتهاء حرب طروادة لمدينته وزوجته.

من أكثر حكايات أوديسيوس في طريق عودته لمدينته إثارة للتأمل هي حكايته في جزيرة العمالقة التي وجدها في وسط البحر، وقبض عليه فيها، وتم سجنه في حراسة أحد العمالقة؛ لأنها كاشفة عن ذكاء ودهاء أوديسيوس، وبراعته في إظهار عكس ما هو عليه، والتخطيط واستخدام اللغة كسلاح في وقت الشدة.

فبعد القبض عليه لم يُخبر أوديسيوس سجناءه باسمه وحقيقته، وتظاهر بالسذاجة والهشاشة. واستخدم عقله في معرفة جوانب القوة والضعف لدى سجانيه، وفي مكان سجنه ومحيطه.

وعندما سأله حارسه وسجانه العملاق الضخم عن اسمه، قال له: اسمي "لا أحد"؛ لكي يُوهمه أنه إنسان عديم القيمة والحيلة، فلا يَحتاط كثيرًا له، ويُحكم قبضته عليه.

وفي لحظة معينة قدرها ببراعة نجح "أوديسيوس" في خداع سجانه العملاق، والهروب منه، بعد أن قام بضربه برمح في إحدى عينيه، وجعله يتخبط، ويترنح دون أن ينجح رغم قوته في الإمساك به.

وبعد هروبه ذهب العملاق إلى جماعته يصرخ، ويطالبهم بسرعة القبض على المجرم الذي فعل به ذلك، قبل هروبه من الجزيرة. وكلما سأله أهله العمالقة عن اسم هذا المجرم، صرخ في وجوههم: إنه "لا أحد". فظن أهله أنه فقد عقله، وحاولوا علاجه وتهدئته؛ مما أتاح لأوديسيوس الوقت الكافي للهروب من الجزيرة.

وبهذا كُتب للبطل "أدويسيوس" بفضل ذكائه ودهائه وحُسن تخطيطه، وبراعة استخدامه للغة- النجاة بحياته ومواصلة رحلة عودته لمدينة "إيثايكا" ولزوجته وحبيبته" بينيلوب"، ولابنه الوحيد "تليماخوس".

وأظن أننا لو انتقلنا بتلك الحكاية ومغزاها من عالم هوميروس والملاحم اليونانية، إلى عالم العلاقات الإنسانية، وإلى عالم السياسة وصراعات النفوذ والسيطرة والمكانة في العالم بصفة عامة، وعالمنا العربي بصفة خاصة، فسوف نتعلم أن الحكمة السياسية تقتضي دائمًا امتلاك رؤية استراتيجية وأهداف واضحة، وامتلاك فهم لنقاط القوة والضعف في محيطك ولدى أصدقائك وأعدائك الحاليين والمحتملين.

كما تقتضي تلك الحكمة السياسية أن تُجيد صنع خطابك السياسي والإعلامي، وأن تَظهر أحيانًا أنك "لا أحد"، وأقل قوة مما أنت عليه حتى تستكمل أسباب قوتك الحقيقية، التي تؤهلك لاستعادة مكانتك ونفوذك، والقيام بالدور الذي يليق بك.

إعلان