إعلان

«أربطة».. عن شروخ العائلة!

د. ياسر ثابت

«أربطة».. عن شروخ العائلة!

د. ياسر ثابت
07:32 م السبت 25 ديسمبر 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

هذه رواية كاشفة وأخّاذة، مذهلة في مدى مقاربتها للواقع، وحواراتها النابضة بالصدق.

رواية تؤنسك بسلاسة سردها وواقعية قصتها، وتأسرك بحزنها، عن أسرة مفككة مكونة من أبّ غير مسؤول وأم مكلومة توشك على الجنون من فرط الوجع وولدين يعانيان تشوهات نفسية.

«الأربطة الوحيدة التي وضع والدانا لها اعتبارًا هي تلك التي عذَّب بها كل منهما الآخر طوال حياته» (ص 173).

إن رواية «أربطة» (الكرمة، 2019) تسأل بجرأة: كيف نستطيع أن نعترض عجلة الأذى، ونكف عن توريث تشوّهاتنا لغيرنا، ولأطفالنا؟

«لقد تعلّمتُ شيئًا واحدًا فقط من والدينا: أننا يجب ألّا ننجب الأطفال» (ص 179).

في رحلة التفكك، يتساقط أفراد العائلة كنقود معدنيّة صغيرة لا أحد يستهويه الانحناء لالتقاطها. تشعر أن كل واحدٍ منهم يقول لسان حاله:

«كم أنا وحيدٌ في كلّ جثثي»!

تُقدِّم الرواية التي ترجمتها عن الإيطالية أماني فوزي حبشي، شخصيات مكتوبة بشكل مبهر. ليس هناك الكثير من الأحداث، لكن هذا القليل استخدمه الروائي دومينيكو ستارنونه بشكل رائع كمصباح ينير به أجزاء من شخصياته.

تفتتح الرواية بخطابات ترسلها الزوجة «فاندا» إلى زوجها «آلدو»، الذي هجر أسرته مع حبيبة جديدة. يبدأ خطابها الأول بسؤال يبرز عزّتها وشرخ روحها ويفيض بألم اللوم: «إذا كنت نسيت، أيها السيد المحترم، فدعني أذكّرك: أنا زوجتك» (ص 7).

بتعدد الخطابات، تتعدد انفعالات الزوجة، فتارة تفقد أعصابها فتشتمه وتهينه وتُبرز مساوئه في صورة منحطة أمامه ناعتة إياه بالأنانية والخسة، وتارة تسأله بتودد عن خطئها والذنب الذي اقترفته وتُذكِّره بطفليهما «ساندرو» و«آنَّا» وأيامهما الجميلة المنقضية، ثم تعود فتتهكم عليه وتصرخ كالمجنونة منقضة عليه تريد أن تفتك به، لتتحول إلى امرأة نحيلة سهلة الاستثارة صعبة المعشر.

يبدو عبر صفحات الرواية أن حاجتَنا الحقيقيّةَ هي أن نُفتقَد.

ربما تسأل الزوجة/الأم نفسها في هذه الحالة المضطربة والمرتبكة: هل أنا في الأصل شجرةٌ أم سرير؟ هل أنا ما كنتُ عليه أم ما صرتُ إليه؟

يعود الزوج إلى رشده ويستأنف الحياة مع زوجته، لكن يظل كل مجهود ضائعًا بينهما، وينعكس ذلك على الابن والابنة، فيكبران وهما يعانيان أزمات عاطفية.

بعد عودة الزوج/الأب، تعامله الزوجة/الأم بتسلُط، وتتحكم في قرارات المنزل. هنا يتغلغل سؤال «فاندا» على هيئة كلامٍ لم يُقل: لماذا رغبتَ فيِّ أكثر مِن أيّ وقتٍ مضى ليلةَ رحيلك؟ هل الألمُ يقرّبُ الناسَ أكثرَ من المتعة؟ هل نخشى أن نحيا معًا أكثر مِن أن نموتَ وحيدين؟

تُستأنف أحداث الرواية بعد الرسائل بثلاثين عامًا تقريبًا وتحصل أمورٌ كثيرة لأفراد العائلة، وفي كل مرة يرسم المصباح ظلًا مختلفًا، فالضحية تصير جلادًا والعكس، بشكل مستمر، حتى نهاية الرواية التي تقع في 196 صفحة من القطع المتوسط.

تنقسم الرواية إلى ثلاثة فصول، فصل للحكاية وهي تُروى من وجهة نظر الزوجة، ثم الزوج، ثم الابن والابنة، وكل منهم يكشف زاوية جديدة ومختلفة من القصة، ويُلقي الضوء على تفاصيل صغيرة دقيقة وجميلة، حتى وإن كانت تتكلم عن القُبح والتفكك العائلي.

قد تتعاطف مع شخوص الرواية أو تكرهها، من الأم الساعية لإرضاء غرور كبريائها، إلى الزوج الخانع بلا سلطة، والولدين العالقين في وحل الانتهازية والقسوة .

ربما يُغرم القارئ في الرواية المبنية بدهاء، بحكاية طريقة ربط الحذاء، وكيف كان تذكير الابن لأبيه بها سببًا عاطفيًا في رجوع الأب إلى عائلته بعد مغامرة علاقته مع الشابة «ليديا».

كذلك تستوقفك حكاية المكعب الأزرق، الذي هو مخبأ سري أخفى فيه الزوج/ الأب خلاصة ذكرياته مع العشيقة السابقة.

هناك أيضًا القط «لابس» واكتشاف الأم معنى الاسم «خراب - دمار- حظ سيء» من القاموس اللاتيني، وكيف أن الزوج بسخريةٍ مستكينة كان يصف باسم القط حياته الزوجية.

من شخوص الرواية، الجار «ناضار»، الذي كان -وفق نظرية الابن- عشيقًا محتملًا للأم.

كما يمكن الحديث عن دفاتر الزوجة/ الأم «فاندا»، لكتابة مصروفات البيت بدقة لسنوات.

«وضعتُ بداخل صناديق من الكرتون دفاتر «فاندا» الكثيرة جدًا، أرقامًا فوق أرقام، تاريخًا اقتصاديًا دقيقًا لعائلتنا منذ عام 1962 حتى اليوم، أوراقًا مرسومة عليها مربعات كانت تدوِّن بالتفصيل الدخول والمصرفات» (ص 77).

كلمات الابنة تلخص تفكير الرجال، أو على الأقل وجهة نظرها في طريقة تفكيرهم:

«كم أنتم جميعًا طيبون مع النساء. لديكم ثلاثة أهداف عظيمة في الحياة: نكاحنا، حمايتنا، وإيذاؤنا» (ص 192).

«أربطة» بها مناطق جيدة، كجنون المرأة التي تظن أنها العالم والرجل الذي يكبر ويفقد حيويته ويجد العزاء لفترة من الزمن في أحضان امرأة أخرى أصغر سنًا.

وصف التقدم في السن والشعور بعدم الأمان كان سلسًا، خصوصًا بعد واقعة اكتشاف الزوجين التلف الذي لحق بالمنزل خلال إجازتهما. وإذا كان «آلدو» يتمثل مقولة المترجم والشاعر العراقي كاظم جهاد: «لا رغبة لديّ في سرد أهوال الرحلة»، فإن الروائي دومينيكو ستارنونه ينقل لنا أدق المشاعر الدفينة لهذا الزوج/الأب.

إنها رواية مروّعة، عن «مجزرة منزلية» بحسب صياغة ملحق «التايمز»؛ لأن العطب عندما يطال الزوجين يترك الكثير من الأشلاء والدمار والأسئلة.

«أحنق على فكرة الامتنان التي لا بدَّ أن يشعر بها الأبناء تجاه آبائهم طوال حياتهم من أجل الحياة التي منحوها لهم. امتنان؟ أضحك وأصيح: إن أبوينا مدينان لنا بتعويض، من أجل كل الأضرار التي سبباها لعقلنا ولمشاعرنا» (ص 185).

كجرادٍ انتظر موسمَ الحصاد، يتفشى اليأس في الرواية، ويتقاسم أبطالها فداحة الوجود.

قد تُلاحظ قلة البكاء في الرواية، لكن الحزن عشبٌ لا يحتاج إلى ماء، فهو ينمو من تلقاء نفسه.

رواية «أربطة» عن شخوص، يسأل كلٌ منها نفسه: هل أنا الحي الشاعر بذاته أم الميت المشعور به؟

إعلان