لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

مقولة "أزمة الضمير"

أمينة خيري

مقولة "أزمة الضمير"

أمينة خيري
09:16 م الإثنين 20 يوليو 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يمكن القول إن المصريين بكل أنواعهم وفئاتهم وتوجهاتهم وقدراتهم التنظيرية والتكتيكية لم يجتمعوا من قبل على رأي أو مقولة بعينها كما فعلوا مع "لو الناس تراعي ضميرها مكانش ده بقى حالنا".

توغلت المقولة، وتغولت، وبات الكل ينطق بها لتتحول إلى أقوال مأثورة أو مقولات معروفة أو أقاويل شعبية، سمها ما شئت.

وهالني أن يخبرني قبل أيام طفل لم يتعدَّ عامه العاشر معلقاً على رجل وقع على الأرض أمام محل خضروات بسبب قشرة موزة ألقاها أحدهم بأن "لو الناس عندها ضمير مكانش الراجل وقع".

ويبدو أن مفهوم الضمير نفسه أو تعريفه يستحق منا بعض التحري والتدقيق؛ وذلك بعد ما بات كل من لديهم القدرة على الكلام في مصر يتكلمون عن أزمة الضمير. وبحسبة منطقية بسيطة، لو كانت أزمتنا أزمة ضمير، والجميع يتمنى لو راعي الجميع ضميره، فكيف وصلنا إلى أزمة الضمير الحادة هذه؟

الضمير هو هذه القدرة البشرية الطبيعية على التمييز بين الخطأ والصواب، وبين الحق والباطل، وبين الخير والشر. وهو الذي يدفعنا إلى الشعور بالندم على فعل ما وهو ما نسميه "تأنيب الضمير". وهذا الشيء المسمى "ضميرا" هو ما يجعل البعض منا يشعر بالرضا أو السعادة في حال مالت تصرفاته وأفكاره صوب النزاهة والاستقامة حتى لو لم يكسب مالاً وفيراً أو يحقق نجاحات يتمناها.

وعلى الرغم من أن اختلاف البيئة والثقافة ينعكس بعض الشيء على ما يسبب وخز الضمير هنا أو هناك، لكن يبقى هذا الخيط الرفيع بين الخطأ والصواب معروفاً ومتشابهاً لدرجة التطابق.

وطبقاً لهذا التعريف، فإن معضلة "الضمير" في مصر والتي يتحدث عنها الجميع تكمن في التغيرات والتشابكات الكبرى التي طرأت على مفاهيمنا في العصر الحديث.

خذ عندك مثلاً موظف الحكومة الذي لم يشعر يوماً بوخزة ضمير رغم أنه يكتفي بالعمل نصف أو ثلاثة أرباع ساعة في اليوم على أفضل تقدير؛ وسائق التاكسي الذي لم يؤنبه ضميره يوماً، على مدار سنوات، على إنكار أن العداد يعمل وذلك ليعصر الزبون ما استطاع لذلك سبيلاً؛ وسائق الميكروباص الذي لا يرى أي تعارض بين الضمير والسيارات الملاكي التي تعمد الاصطدام بها ليلقن سائقيها درساً، والطبيب الذي لا يربط بين الضمير وإخضاع المريض لجراحة يعلم علم اليقين أن لا طائل منها، والمعلم الذي يؤمن أن الضمير لا علاقة له من قريب أو بعيد بتحويل منظومة التعليم إلى دروس خصوصية، والكناس الذي يعتبر أن تحويل بدلة العمل والمقشة إلى وسيلة للتسول مسألة لا تمت للضمير بصلة، وضابط المرور الذي يترك الشوارع تضرب تقلب والناس تُقتل وتصاب دون أن يؤدي عمله لفرض تطبيق قواعد السير لا يعتبر ذلك خرقاً لراحة الضمير، والصحفي الذي يكتب كلاماً فارغاً يضر ولا ينفع ولا يعتبر ذلك متعارضاً مع الضمير، والمتحرش ضميره مرتاح تماماً لأن هرمونات الذكورة تجعله متحرشاً بالفطرة، والأمثلة أكثر من أن تعد أو تحصى.

اللافت أن كل من سبق يعلق ما يفعل على شماعات تتراوح بين الراتب القليل، أو "ما كل الناس بتعمل كده"، أو "سلوك المواطنين هو الذي يحتاج إلى تعديل"، أو "عادي يعني"، أو "هذا ما وجدنا عليه آباءنا".

لكن المثير حقاً هو الفصل التام بين الضمير الميت إكلينيكياً والتدين المنتعش مظهرياً.

والقائمون على المنظومة الدينية الشعبية ظلوا لسنوات طويلة لا تعنيهم كثيراً بواطن الضمائر أو انعكاس التدين على العمل والأخلاق والسلوك، وهو ما ساعد على ترسيخ فكرة الفصل بين الجوهر والمظهر والتحيز للأخير.

الطريف أن الجموع التي لا يزعجها موت الضمير إكلينيكياً تجد قدراً من الراحة النفسية في إلقاء تهمة الضمير الغائب في ملعب الحكومة- أي حكومة. وهي تهمة مريحة ولطيفة لأنها تقوم بمهام عدة تبدأ بتبرير غياب الضمير الفردي، وتمر بتهوين أثر هذا الغياب، وتنتهي بتأجيل عملية الوخز أو التأنيب لحين إشعار آخر.

من جهة أخرى، يتجاهل أو ربما يجهل البعض أن الحكومة- أي حكومة- تتكون من أفراد قادمين من المجتمع نفسه، وليس من مجتمع مجاور أو مغاير.

إعلان