إعلان

"مصري للنخاع".. رسائل محمد خان

د. ياسر ثابت

"مصري للنخاع".. رسائل محمد خان

د. ياسر ثابت
09:00 م الإثنين 09 مارس 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يمتلك المخرج محمد خان اندفاع الأطفال وخشونة المثاليين الذين يرون في الرسائل الكبرى ذروة ضد شهوات ومطامع الحياة. ارتكب جنحة الاغتراب، لكنه لم ينسَ حلم السينما، فمضى في طريق استعادة الحلم، والعزم سهمٌ في كاحِله.

وهو في الجزء الثالث من «خطابات محمد خان إلى سعيد شيمي» (الكرمة، 2020)، الذي أعده صديقه مدير التصوير السينمائي، سعيد شيمي، يأخذنا من خلال ممر من الذكريات نحو رحلة العمر وذلك الهوس النبيل بالسينما. تكتنز الحقائب بكثير من الحكايات.

يحمل الجزء الثالث والأخير من الخطابات عنوان «مصري للنخاع» وهو الوصف الذي كان قد كتبه الناقد الفني سامي السلاموني عن محمد خان، حينما كتب عن أحد أفلامه.

استعار شيمي هذا الوصف ليكون عنوان الجزء الأخير من رسائل صديقه خان إليه، قبل أن تتحول هذه الصداقة إلى تعاون سينمائي أثمر ستة أفلام.

يحتوي هذا الجزء على خطابات خان إلى شيمي من 1973 إلى 1977، قبل أن يعود محمد خان نهائيًا إلى مصر من تغريبته التي أخذته إلى بريطانيا ولبنان.

رسائل عميقة ومؤثرة لأحد أهم مخرجي السينما المصرية، كما تعكس روح العصر. وكما قال خان لشيمي في أحد خطاباته «أكتب إليك كي أتنفس فقط» (ص 23).

يود خان أن يتملص من تلك القبضة التي تمسك بعنقه وتزيد ضغطها عليه فيتوقف تمامـًا عن التنفس.

تكشف الرسائل مدى عمق الصداقة بين سعيد شيمي ومحمد خان، وتقاربهما فنيًا، على رغم المشاحنات المستمرة بينهما؛ إذ يقول خان: «الآن بكل صدق أستطيع أن أؤكد لك أنني أرى في عملنا معـًا قوة معينة- مع كل المشاجرات... إلخ- ينتج منها نوع معين من السينما تجده في «البطيخة»... بل أعتقد حتى إن شاهدت «الهرم» الآن ستجد بينك وبين نفسك أن هنالك جوا معينا يربطنا خلال ارتباطنا في أحاسيس معينة نحو الحياة» (ص 48).

على المستوى الإنساني، كان خان حريصًا على إرسال برقية تلغراف إلى صديقه لإبلاغه بخبر رحيل والد خان. يقول خان في رسالة بتاريخ 7 مارس 1973:

«لقد أرسلت لك كما تعرف برقية يوم وفاة والدي- رحمه الله- لأن مشاركتنا الأفراح والأحزان شيء طبيعي يحدث كانفعال ودون تفكير، فأنت الوحيد الذي أرسلت له برقية لمعرفتي قدر والدي لديك ومعزته لك أيضًا ولإخوتك ووالدك المرحوم» (ص 51).

بل إن الحسَ السينمائيَّ المتأملَ التفاصيلَ الدقيقةَ يستحوذ على خان حتى وهو يصف لصديقه وقائع اللحظات الأخيرة من حياة والده، ومن ذلك ما جاء في الرسالة السابقة؛ إذ يقول:

(يوم الخميس الموافق 1 مارس، في الصباح كنت قد جلست مع والدي وقت قليل وفي الظهر تناولت الغداء بمفردي بعد وصول والدتي وتركتهم لأقضي مشوار لحوالي ساعة حيث عدت قبل الثالثة ظهرًا وكان والدي يتغدى حينذاك. قبل الساعة الرابعة كنت في نقاش مع والدتي عن شيء تافه وصعدت إلى حجرتي غاضبًا بعض الشيء - بعد لحظات سمعت صرخة ماما تناديني ونزلت السلالم مثل البرق، لأن في الماضي وقع والدي على الأرض وساعدته على النهوض.

ما حدث هو أنه أثناء خروجي بابا كان نفسه في حاجة حلوة وماما اشترتله جاتوه حيث أكله، وبعد عودتي ومناقشتي مع ماما وصعودي حجرتي، والدي قام من كرسيه وذهب إلى جزء المطبخ الملتحق بالحجرة ليقول لماما «إنتي مزعلة الولد ليه؟» وماما قالت له «إنت دايمًا في صف ابنك» وكانت ماما متجهة نحو حجرة الجلوس حيث فجأة وقع برطمان القهوة الذي كان في يد أبي على الأرض وتراجع أبي ليقع على الأرض ساندًا ظهره على دولاب ثم فاقدًا اتزان جسده وخابطًا رأسه مع ميله على طرف الثلاجة ليس بعنف. فقد انتاب والدي سكتة قلبية في تلك اللحظة. في لحظات قفزي السلالم من حجرتي ووصولي إليه حاولت فورًا رفعه من على الأرض ولكني لم أستطع ذلك، فأدرته ووضعت يدي تحت كتفه وجرجرته إلى الخلف حتى أسندت ظهره على كنبة في حجرة الجلوس «هو الآن شبه جالس على الأرض» وأسرعت أقول لماما أن تحضر ماءً فأحضرت الماء وأشربته بعض الماء حيث شرب جزءا منه – أعينه كانت مبرقة ودون تحرك ولكن أظن في تلك اللحظات كان لا يزال حيا ولكنه في شبه غيبوبة فلم ينطق بكلمة. في ذات الوقت أسرعت إلى التليفون لأنادي الدكتور وحينما لم أجده ناديت الإسعاف وعدت سريعـًا إلى والدي الذي أغلق عينيه بنفسه، ورسم على وجهه صورة هدوءٍ تام) «ص 52».

يضم «مصري للنخاع» رسائل تحادث فيها الصديقان عن تفاصيل زواج خان من زينب خليفة، وكذا قرار خان بالرجوع إلى مصر، والعمل في السينما المصرية وما واجهه من صعوبات في هذه المرحلة، والتي تجاوزها خان ليُخرج أول أفلامه الطويلة «ضربة شمس». ومع دوران عجلة العمل أثمرت الرحلة 24 فيلمـًا روائيـًا حتى رحيل هذا المخرج المتفرد عن عالمنا.

في رسالة مؤرخة بتاريخ 29 أكتوبر 1974، يقول خان:

«طبعـًا نحن مهاجرون، فعودتي إلى مصر شيء مهم، ولعلي فعلًا أستطيع تحقيق ذلك في خلال السنتين القادمتين، وهي خطوة أخافها خوفـًا رهيبـًا. فاكر صديق والدي ووالدك.. أبوبكر.. الرجل الأسود ذو الشعر الأبيض.. الذي انتهت حياته في شارع فاروق في أحد البيوت القديمة ولم تُكتشف جثته إلا بعد عدة أيام وهو ميت في حجرته.. أخاف أن أنتهي مثله» (ص 146).

في مقدمة إضافية تحمل عنوان «الأبواب تفتح.. بعد طول عناء»، يقول الناقد السينمائي كمال رمزي: «نشر الرسائل التي كتبها خان بطريقته الخاصة، شديدة التميُّز، يُعتبر عملًا غير مسبوق في تراثنا الأدبي... خطاباته، تمامًا، مثل أفلامه، تُعبِّر عن شخصيته: ذكاء لماح، لا تفوته الملاحظة العابرة، إنها ترصد التفاصيل، صادقة في انفعالاتها، لا تكترث بالتنميق والتجميل، تمتلئ بالوقائع والأحداث، تنتقل سريعًا من أمر لآخر» (ص 10).

تغريبة محمد خان في مدينة الضباب قاسية، فالواضح أنه لم يحب هذه البلاد. لا يذكرها إلا مشفوعة بكلمات الاستياء. فهو لا يتحدث إلا عن خلافات مع بريطاني صدم عربته وكذب أمام القاضي في سرد الوقائع، فخسر خان القضية، أو اكتشافه أن المحل الذي استأجره تسكنه فئران عملاقة. باختصار، لا صداقات مع شباب لندن، كأن سياجـًا سميكـًا فصله عنهم.

من دهاليز الوحشة، يشير خان، على نحو سلبي، إلى تجربته البائسة في بيروت، في مهن سينمائية كمساعد إخراج مع فاروق عجرمة وغيره، ليعود مرة ثانية إلى لندن مواصلًا نمط حياته، حيث الارتباط بأعمال مؤقتة، كلها بلا عائد مالي كبير.

استبعد شيمي الكثير من التفاصيل التي رأى أنها لا تهم القارئ في شيء، مبيّنًا: «كنا شبابًا في ذلك الوقت، وهناك الكثير من الكلام الخارج بيننا، وكل ما تم استبعاده ليس له علاقة بالفن السينمائي، وقتها كنا نتحدث بحرية، فلم يكن يتوقع أي منا أنه سيأتي يوم وتنشر هذه الخطابات».

يشار إلى أن الجزء الأول من الخطابات كان قد صدر عام 2018 بعنوان «مشوار حياة»، أما الجزء الثاني، فقد صدر مطلع بالتزامن مع معرض القاهرة للكتاب 2019.

إعلان

إعلان

إعلان