إعلان

جغرافية الروح

د. أحمد عمر

جغرافية الروح

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 09 فبراير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


كلما استغرقت في قراءة سيرة حياة الصوفية الكبار، وما أبدعوه من شعر ونثر لوصف أشواقهم وأحوالهم ورحلاتهم وتجاربهم الروحية، وعلاقتهم بالله والعالم والإنسان - تأكد لي صدق التجربة الصوفية، رغم اختلاف أشكالها وتجلياتها عبر العصور، وعرفت أن جوهرها هو الحب الذي يُفضي إلى المعرفة، والمعرفة التي تُفضي إلى أن يصبح الصوفي بعد رحلة بحث طويلة وحيدًا مع الواحد المحبوب.

وتأكد لي أيضًا أن اللغة الصوفية التي يغلب عليها الشعرية والمجاز هي وصف لحالات وجدانية نادرة، تدخل في باب المضنون به على غير أهله، ولا يفهمها إلا من ذاقها وعرفها؛ فما أبعد الفارق بين الوصف والمعاناة، بين الحديث عن العشق والشوق ومكابدتهما حقًا.

ومن جماليات التجربة واللغة الصوفية استخدام مفردات شعر الغزل العربي التقليدي للتعبير عن التجارب الروحية، واعتبار الحياة رحلة سفر مستمرة بحثًا عن معشوق الفؤاد، ومرغوب القلوب، ومن بقربه يتحقق كمال الوجود.

وهنا تأتي أهمية هذا الكتاب الصغير في حجمه، العظيم المتعة والمنفعة في موضوعه، وهو كتاب "جغرافية الشعراء" للمستشرقة الألمانية " أنّا ماري شيمل" الذي يضم نص محاضرة ألقتها المستشرقة الشهيرة في مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن عام 2000.

والكتاب يتناول موضوع الترحال والسفر عند الشعراء الصوفيين، بحثًا عن مدينة الروح وموطن القلب ومستقر الحبيب، مصداقًا لقول جلال الدين الرومي: "أيها الفتى، أنت قد رأيت في غربتك مدنًا كثيرات، فخبرني أية مدينة من هذه أطيب؟ فأجاب: تلك المدينة التي فيها من اختطف قلبي".

وقد حاولت "أنّا ماري شيمل" في محاضرتها أن تركز على النهج الذي سلكه الشعراء في العالم الإسلامي في استخدامهم صورا من المدن ومن الأنهار ومن المعالم الطبيعية في الدلالة على المحبوب، وكشف الإيقاع الداخلي المشترك بينهم.

والجغرافية التي يتحدث عنها الكتاب هي جغرافية روحية، صنعها خيال مفكري وشعراء الصوفية الذين قاموا برحلات عبر صحارٍ لم يروا منها شيئًا ألبتة، على ظهر جمل لم يكن ملكًا لهم في يوم من الأيام.

وهذه الجغرافية الروحية هي "فن معرفة تأثير الأماكن الشريفة على الأرواح اللطيفة" كما قال محيي الدين بن عربي. وهي التي تفسر لنا "سر المدينة التي نبحث عنها في أسفارنا" التي تحدث عنها جلال الدين الرومي. المدينة التي تجتذبنا فنرحل بحثًا عنها، ولو على غير إرادتنا.

من أجمل ما قرأت في الكتاب ما ذكرته "أنّا ماري شيمل" عن نزيل الإسكندرية الصوفي والفقيه المالكي أبي بكر الطرطوشي (451هـ - 520هـ) صاحب كتاب "سراج الملوك في سلوك الملوك" الذي اعتبر السفر بحثا مستمرًا عن المعشوق، أو عن أثر ولو بعيد من آثار هذا المعشوق، فقال:

"أوقفتُ المسافرين من كل بادٍ سائلاً
هل أحسّ أيّ منهم يا معشوقتي بعطرك
سألتُ كل ريحٍ ونسمة
هل منكم من يعرف أين حبيبتي؟".

وكذلك قول جلال الدين الرومي في ديوان غزليات شمس تبريزي:
"وما دمشقُ؟!
إنها جنّة مملوءة بالملائكة والحور
وقد حارت العقول في تلك الوجوه
لا، أنا عاشق ومندهش ومجنون بدمشق
روحي فداء لدمشق وقلبي أسير هوى دمشق".

في النهاية، هذا كتاب صغير ممتع جدير بالقراءة، وهو لباحثة ومستشرقة ألمانية مميزة، امتلكت روحًا وعقلًا نادرين، واتسمت كتاباتها بالرصانة العلمية والجمال والجلال في الوقت ذاته.
والكتاب يكشف لنا عن أمانتها العلمية، وثرائها المعرفي، ومحبتها العميقة لتراث الصوفية المسلمين، ويُعلمنا أهمية أن يعشق الباحث عمله ومجال بحثه، ويُخلص له، فيهبه مفاتيح أسراره، ويرى فيه ما لا يراه غيره، ويقول فيه ما لا يشبه قول الآخرين.

إعلان

إعلان

إعلان