إعلان

«البقرة الأولى».. تُجدد الثقة في البرليناله

د. أمــل الجمل

«البقرة الأولى».. تُجدد الثقة في البرليناله

د. أمل الجمل
05:48 م الأحد 23 فبراير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

جاءت عروض اليوم الثالث ضمن المسابقة الرسمية للبرليناله السبعين لتُعيد إليّ التفاؤل بعد الإحباط، وتُجدد الثقة في اختيارات البرليناله في دورته السبعين. أول وأهم هذه الأفلام يحمل عنوان «البقرة الأولى»، للمخرجة الأمريكية كيلي ريتشارد.

يبدأ الفيلم من لقطة واسعة لباخرة تمر في النهر. ثم على أحد شواطئ النهر نرى كلبا يحفر كأنه اكتشف أمرا ما. صاحبته فتاة شابة جميلة تنهره وتبعده، ثم تأخذ في تأمر المنظر. نحن لا نرى شيئاً فقط الدهشة على ملامحها، ترددها، قيامها بالحفر قليلاً، ثم التوقف. النظر حولها لتتأكد أن لا أحد متواجد حولها. تواصل الحفر بحماس.

ثم تنتقل الكاميرا فترينا مركز الحفر، فإذا باثنين من الهياكل العظمية البشرية. ترقد إلى جوار بعضها في شكل بديع، وإن كان لا يزال التراب يغطي بعضها. وجود الاثنين راقدين في هذا الوضع يُوحي بجريمة. نتخيل، نتساءل: هل هما عاشقان؟ هل للأمر علاقة بخيانة ما؟ يقطع علينا تساؤلاتنا صوت شقشقة العصافير، فترفع رأسها لنرى العصافير ترفرف على أغصان الشجر وخلفهما السماء كأنها تُغني للراقدين. مشهد شاعري بسيط سنعود إليه في الختام.

ثم تنتقل الكاميرا إلى الغابة؛ حيث نرى رجلاً في منتصف العمر يبحث عن الفطر، ويتلذذ بطعمه بهدوء، نتأمل كيف يتعامل مع أوراق النبات أو حينما يقوم بتعديل وضع سحلية انقلبت على ظهرها. الرحمة والرقة سمة واضحة على ملامح هذا الرجل الذي يُدعى فيجويتز، الذي كان يعمل طاهياً وخبازاً ذات يوم.

يرافق فيجويتز - يقوم بدوره جون ماجارو - مجموعة من الصيادين العدوانيين وهم يتجهون نحو موقع استراتيجي في إقليم أوريجون. في إحدى الليالي يكتشف مهاجرًا صينيًا عارياً متوارياً بين غصون النباتات. إنه هارب من مطارديه الروس. يُؤويه فيجويتز، ويُضمّد جراحه، ويمنحه ملابس، بعد أن يُخفيه بين ممتلكات الصيادين.

القطع السابق بين المشهدين الافتتاحي وما يليه من مشاهد لا يشي بأي اختلاف في الزمان أو المكان. كأننا انتقلنا إلى مشهد آخر وفقط، لكننا نلاحظ أن الفتاة تغيب طويلاً عن الفيلم، أتساءل أين ذهبت؟ ثم في النصف الثاني من الأحداث، أبدأ في إدراك مغزى وجود الفتاة والفاصل الزمني والمكاني بين اللقطتين. فالمشهد الأول ينتمي للعصر الحديث والمشاهد التالية تعود إلى غابات شمال غرب المحيط الهادئ في عشرينيات القرن التاسع عشر.

تربط الصداقة بين الاثنين. فيجو يفكر في امتلاك مخبز في سان فرانسيسكو، إنه مهووس بصناعة الخبز، يتملكه شغف كبير. تتُاح له الفرصة في ممارسة وتحقيق أولي لحلمه عندما تصل «البقرة الأولى» إلى المكان، يشتريها أغنى رجل مقيم في تلك البؤرة الاستيطانية، إنه رجل إنجليزي.

يبدأ فيجويتز بمساعدة صديقه الصيني في سرقة حليب البقرة ليلاً لاستخدامه في صناعة فطائر لذيذة الطعم، يبيعونها للناس في المنطقة، تحت ادعاء أنها مصنوعة وفق خلطة صينية سرية. كانت الفطائر لذيذة إلى درجة أن الرجل الإنجليزي عندما تذوقها قال: «لقد استعدت لندن في مذاقها».

ويستمر الأمر مع تزايد الطموح، وتزايد الرغبة في الحصول على اللبن، وبناء الأحلام الكبيرة، وإعجاب الإنجليزي بهما، إلى أن يُكتشف أمرهما، وتتم مطاردتهما من دون أدنى رحمة.

في المشهد الأخير، أثناء رحلة الهروب، نرى الصديقين يلتقيان، بصحبتهما الأموال المدخرة من بيع الفطائر، لازال هناك جندي شاب يتربص بهما حاملاً بنقديته، إلي أن يصلا إلى شاطئ - شاهدناه في بداية الفيلم - فيرقد فيجويتز ليتسريح لأن جراحه لم تجف، يتأمله الصديق الصيني، برفق، وتعاطف، ورقة، وبعد أن كان يحثه علي الإسراع، يضع كيس الأموال تحت رأسه ويرقد إلي جواره، ثم تهبط التترات.

عندئذ نستعيد مشهد البداية، بلقطة شقشقة العصافير وكأنها تغني للراقدين في الحفرة، نستعيد الأبيات التي اقتبستها المخرجة في بداية فيلمها من الشاعر الإنجليزي وليام بليك تحديداً من قصيدة «زواج الفردوس والجحيم» التي تُعَدُّ من أبرز أعماله وفيها يقول: «للطائر عشٌّ، للعنكبوت نسيج، وللإنسان الصداقة».

الفيلم الذي شهد عرضه الأول بمهرجان نيويورك سبتمبر الماضي، ويشارك في مسابقة مهرجان برلين السينمائي، ضمن ١٨ عملاً أخرى تتنافس على الدب الذهبي، ويُتوقع ألا يخرج من دون جائزة، في أي من عناصره كالسيناريو أو الإخراج، وكذلك التصوير شديد الرقة، المنجز بحساسية كبيرة. خصوصاً في علاقة البطل فيجويتز بالطبيعة، بمفرداتها، في علاقته بالرجال الآخرين، في تأمله للزواحف، أو قيامه بإعادة وضع السحلية المقلوبة كأنه يساعد رفيقه. الفيلم في أغلبه مطبوع بالشاعرية، بالأداء المتزن الهادئ، وفي نفس الوقت نجده مغزولا بحس كوميدي ساخر، حتى أثناء سرقة حليب البقرة، تقدم لنا المخرجة مشهداً جميلاً ساحراً عن تلك العلاقة بين السارق فيجويتز بالبقرة، وكيف يُقيم معها رابطة صداقة وود، بحديثه إليها وطبطبته عليها، ومسامرتها بالحكي عن أحلامه. إنه فيلم ملغم بالرمزية عن نشأة الرأسمالية، إنه قصة عن الحب والصداقة، بقدر ما هو رواية عن المال في الغرب القديم.

إعلان

إعلان

إعلان