إعلان

معايشة الناس فى كتاب "الأدب" .. نزهة فى خواطر ابن المقفع

د. هشام عطية عبد المقصود

معايشة الناس فى كتاب "الأدب" .. نزهة فى خواطر ابن المقفع

د. هشام عطية عبد المقصود
07:42 م الجمعة 25 ديسمبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يحمل الغلاف الباهت القديم، والذي تركت السنوات عليه ملامحها قدمًا عنوان "الأدب الكبير لابن المقفع"، ثم يمضي الغلاف في سطوره حاملا اسم المحقق "بتحقيق" الأستاذ أحمد زكي باشا مذيلا له بأنه كاتب أسرار مجلس النظار، وهو التعبير الشائع حينئذ لمجلس الوزراء، ثم يمضي الغلاف بالقول إنها الطبعة الأولى، وأنه طبع بمدرسة محمد على الصناعية بالإسكندرية عام 1912، وهو تعبير واضح عن دور المدارس في مجال تحقيق ونشر الكتب.

يقتطف المؤلف والعلامة الكبير والمحقق القدير مقطعا من محتوى الكتاب يضعه أيضا على الغلاف: "إذا كثر تقلب اللسان رقت حواشيه ولانت عذبته" في دلالة لا تخطئ على أن التبحر في العلم والمعرفة في مختلف المعارف الإنسانية وعبر مختلف المجتمعات وثقافاتها يصنع ذهنية الفهم والتسامح والتفاعل المؤسس لحوار وتقبل حضاري بلغة العولمة المعاصرة وأدواتها.

وفيما يخص الكتاب وصاحبه فحضور ابن المقفع ظاهر جلي في كتاب النثر العربي عبر ما قدمه من تأليف وتعريب متنوع الموضوعات في كتبه، والتي حملتها السنوات ذيوعا وتوالى نشرها في مختلف البلدان، وقد عاش في العصر العباسي بكل ما تضمنه من انفتاح ثقافي وأيضا محن إنسانية، ومنح النثر من ذائقته شيئا فذا جعل كتاباته عبر القرون والسنوات نثرا يسيرا سلسلا آخاذا باقيا.

وفي كتابه هذا يقدم خبرته عن السلوكيات والقيم وما تحمله سنوات الحياة تجسدا في وعيه من فلسفة، وأيضا عبر تمثله لمن قرأ لهم وعبر عنهم، شكلت منظومة قيم موجهة للحياة ورؤى تصح أن تكون سياق تهذيب اجتماعي ومدونة سلوك.

وقد ضمن في كتابه وحدتين، الأولى وهي ما عرف بالأدب الصغير، وهو الموجه لعوام الناس، والأدب الكبير الذي يتضمن خطابا موجها للخاصة والنخبة وأولي الأمر، وهو ما يجعل منه تعبيرا طبقيا، طالما ظهر في الكثير من كتابات المثقفين العرب عبر الأزمنة، ربما ارتباطا برعاية الأمراء والسلاطين للأدباء والفنون، وابتعاد هؤلاء المثقفين عن العامة معايشة مما أوجد فجوة فهم ترتب عليها سخطا ما وعدم رضاهم عن سلوكياتهم ثم ازدياد هوة انفصالهم اجتماعيا وثقافيا عنهم.

والإبحار في نصوص هذا الكتاب نزهة للخاطر وصفاء للذهن وعذوبة تسري طيبة، من خلال فرادة اللغة وقوة المعنى حاضرة بينة ومؤثرة، تحتشد وتتجلى في براعة انتقاء اللفظ وتضمين الإيقاع الخفي والظاهر معا.

ففي مجال العيش وسط الناس يقول ابن المقفع بعضا مما صار يسمى في العلوم النفسية المعاصرة بسمات وآليات التكيف: "ذلل نفسك بالصبر على جار السوء، وعشير السوء، وجليس السوء".. ثم يمضي معرفا فعل الصبر هنا وداعما له تحملا وعيشا بأنه: "واعلم أن الصبر صبران: صبر المرء على ما يكره، وصبره عما يحب، والصبر على المكروه أكبرهما".

وفي وصف السلوك غير القويم لبعض البشر، والذي هو لعمرك بعض من طبع الناس عبر كل الأزمنة والأمكنة مهما تغيرت جغرافيتها: "واعلم أن اللئام أصبر أجسادا، وأن الكرام هم أصبر نفوسا، وليس الصبر الممدوح بأن يكون جلد الرجل وقاحا على الضرب، أو رجله قوية على المشي، أو يده قوية على العمل، فإنما هذا من صفات الحمير، ولكن الصبر الممدوح أن يكون للنفس غلوبا، وللأمور محتملا، وفي الضراء متجملا.. وللحزم ؤْثِرا، وللهوى تاركا، وللمشقة التي يرجو حسن عاقبتها مستخفا، وعلى مجاهدة الأهواء والشهوات مواظبا، ولبصيرته بعزمه منفذا".

ثم يطرح دليل صفات اللئام بشكل فذ ينفذ إلى أعماق ودخائل النفوس ويعكس أيضا مرارة تجربة شخصية تداخلنا روائحها حضورا عبر الكلمات: "من علامات اللئيم المخادع أن يكون حسن القول سيئ الفعل، بعيد الغضب قريب الحسد، حمول الفحش مجازيا بالحقد، متكلفا للجود، متوسعا فيما ليس له، ضيقا فيما يملك".

ويستمر ابن المقفع في بناء مدونة سلوك معايشة البشر تكيفا بلا ضغينة أو غضب، حتى لتحسب أنه تعلم ألا يحزنه شيء، فكل شيء عنده هكذا وارد في معايشة الناس، نقول إن ذلك يأتي منه فيما يشبه اليأس من الطبائع وتغييرها، ومن ثم يتحول للذات ويحملها وحدها مشقة إدارة ما يقع عليها ويطرأ بها: "وليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس والاستغناء عنهم وليكن افتقارك إليهم في لين كلمتك لهم، وحسن بشرك بهم وليكن استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزك".

ويستكمل كيفية مغالبة الذات التي يأتي عليها كثيرا لتتعايش كأنها وحدها مسؤولة عن حسن تنظيم الكون خارجها: "عود نفسك السخاء، واعلم أنه سخاءان: سخاوة نفس الرجل بما في يديه، وسخاوته عما في أيدي الناس.. فإن هو جمعهما فبذل وعفَّ فقد استكمل الجود والكرم".

وفي حكمة إدارة الشئون للنخبة وفن تعامل مع الخصوم يقدم ابن المقفع منظومة محكمة يراها واجبة لتيسير الحياة وميزان الصدق عدلا: "إذا بدهك أمران لا تدري أيهما أصوب؛ فانظر أيهما أقرب إلى هواك فخالفه، فإن أكثر الصواب في خلاف الهوى". ثم يمضي لمجال إدارة الخصومات بأن يقول: "احفظ قول الحكيم الذي قال: لتكن غايتك فيما بينك وبين عدوك العدل، وفيما بينك وبين صديقك الرضاء، وذلك أن العدو خصم تصرعه بالحجة.. وأن الصديق ليس بينك وبينه قاض، فإنما حكمه رضاه".

ويتطرق ابن المقفع لشيء بهي من آداب الحضور في المجالس، حيث يقدم توجيها عميقا دالا لكيف تكون بين الناس وجودا أو عبورا أو مشاركة وكيف تتخير مجالسك إن استطعت وكيف تتواجد فيها حين يكون ذلك لزاما: "لا تجالسن امرأ بغير طريقته، فإنك إن أردت لقاء الجاهل بالعلم، والجافي بالفقه، والعيي بالبيان لم تزد على أن تُضيع عِلمك، وتؤذي جليسك بحملك عليه ثقل ما لا يعرف، وغمك إياه بمثل ما يغتمّ به الرجل الفصيح من مخاطبة الأعجمي الذي لا يفقه عنه، واعلم أنه ليس من علم تذكره عند غير أهله إلا عابوه، ونصبوا له ونقضوه عليك، وحرصوا على أن يجعلوه جهلا، حتى إن كثيرا من اللهو واللعب الذي هو أخف الأشياء على الناس ليحضره من لا يعرفه، فيثقل عليه ويغتم به".

بل إن ابن المقفع يمضي ليقدم نصيحة عجيبة تقف أمامها حائرا، بأنه حتى وإن كان لديك يقين المعرفة بالصواب أو ما يشبه ذلك في مجلس ما، فإن لذلك سياقا وظروفا تجعله حتى يجدر أن يكون مسكوتا عنه أو مؤجلا: "اخزن عقلك وكلامك إلا عند إصابة الموضع؛ فإنه ليس في كل حين يحسن كل صواب، وإنما تمام إصابة الرأي والقول بإصابة الموضع، فإن أخطأك ذلك أدخلت المحنة على عقلك وقولك حتى تأتي في موضعه، وإن أتيت به في غير موضعه، أتيت به وهو لا بهاء ولا طلاوة له".

وفيما يخص الصداقة والأصدقاء طوّف بنا ابن المقفع في حدائقه، وحيث أرى وربما على عكس البعض ممن رأى أن كثيرا مما جلبه هو من حكمة وفلسفة المجتمعات والكتب التي قرأها وعربها، أرى أن الرجل فيما أحب وقرأ ونقل قد رشحه بمصفاة ذاته وقاسه على ميزان روحه وحياته وما عاشه، ودلل عليه من ألم – كما يتضح أسفا وندما ويأسا من الناس في كل نص – خبرته وتجربته، وحتى أنه ليمكن القول أنه ليس فقط كتاب الأدب كبيره وصغيره وفقطـ، بل هو كتاب حياة ابن المقفع ذاته، يمضي قائلا في الصداقة: "ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بشرك وتحننك، ولعدوك عدلك وإنصافك.. واضنن بدينك وعرضك على كل أحد".

كما يمضي في مجال تعريف انتقاء القول وتقريب الناس وصناعة الأصدقاء وبقائهم أو زوالهم عبر مقياس مبدع رشيق الخطوات: "فإن الجاهل أهل أن يهرب منه أبواه.. واعلم أن انقباضك عن الناسي يكسبك العداوة، وأن انبساطك إليهم يكسبك صديق السوء، وسوء الأصدقاء أضر من بغض الأعداء، فإنك إن واصلت صديق السوء أعيتك جرائره، وإن قطعته شانك اسم القطيعة، وألزمك ذلك من يرفع عيبك ولا ينشر عذرك".

ربما يكون جميلا أن نختتم هذا الإبحار الجميل عن كيف تحيا واثقا مما تحب راضيا عما تفعل، متجاهلا ما يعكرك طالما كنت تبتغي الصواب سبيلا وميزان الحق والقانون طريقا: "إنك إن تلتمس رضا جميع الناس تلتمس ما لا يدرك، وكيف يتفق لك رأي المختلفين؟ وما حاجتك إلى رضا من رضاه الجور، وإلى موافقة من موافقته الضلالة والجهالة؟ فعليك بالتماس رضا الأخيار منهم وذوي العقل؛ فإنك متى تصب ذلك تضع عنك مئونة ما سواه".

إعلان

إعلان

إعلان