لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

يوسف شريف رزق الله.. أكثر وأهم من مجرد "ناقد سينمائي"

د. أمل الجمل

يوسف شريف رزق الله.. أكثر وأهم من مجرد "ناقد سينمائي"

د. أمل الجمل
09:00 م الجمعة 19 يوليو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"لم يكن يوسف شريف رزق ناقداً سينمائياً، أين النقد الذي كان يكتبه أو كتبه بالفعل؟ أنتم المصريون تُبالغون" هكذا يحتج أحد الزملاء العرب من النقاد النشيطين جدا.

أرد عليه: "كلامك صحيح. لم يكن يوسف شريف رزق الله ناقداً، لكنه لعب دوراً تثقيفياً أهم وأعلى في القيمة الفكرية والمردود الإنساني من دور الناقد السينمائي الذي يكتب للنخبة، خصوصاً أنه من جيل كان يعتمد على أبسط وسائل التواصل، إذ لم يكن على أيامهم وجود لوسائل التواصل الاجتماعي. يا عزيزي يوسف شريف رزق الله ساهم بقوة في نشر الوعي والثقافة السينمائية بين أطراف المجتمع عبر برامجه التليفزيونية. المؤكد أن كثيرين من أبناء مصر، وربما من أرجاء الوطن العربي تعلموا من يوسف شريف رزق الله حب السينما، ومعنى السينما، وملايين الحيوات الإنسانية التي تبثها السينما.

الرجل الموسوعة

يوسف شريف رزق الله الذي كان يحلو لنا - عندما نتحدث عنه بإعجاب كبير في ماسبيرو - أن نصفه بـ"الموسوعة السينمائية". لقد تعلمت أجيال عديدة وتفتح وعيها على برامجه السينمائية التي كان يُعدها لكبار المذيعات بالتليفزيون المصري، أو تلك التي كان يُقدمها بنفسه. ساهم في تأسيس بعض الجمعيات والنوادي السينمائية، ونشط فيها بدور فاعل عندما كان النقد السينمائي المصري لا يزال في دور التكوين، ولن نقول في دور التأسيس؛ لأن هناك أجيالا سابقة على ذلك لا يمكن إنكار دورها بشهادة سمير فريد نفسه.

ترجم يوسف شريف رزق الله مقالات وحوارات، والكتابة عن بعض الأفلام في نشرات تلك الجمعيات والنوادي السينمائية. الأستاذ الكبير سمير فريد عندما تحدث عن الأرشيف وفكرة التوثيق للسينما المصرية أشار إلى جهود يوسف شريف رزق الله معه، فقد تعاونا في البداية رغبة في إنجاز توثيق علمي، لكن المشاغل أخذت يوسف لاحقاً ولم يُواصل.

لماذا؟

على مدار سنوات كنت أتساءل: لماذا لا يتولى يوسف شريف رزق الله رئاسة مهرجان القاهرة السينمائي؟! كنت أتساءل حتى من قبل أن أمارس مهنة النقد السينمائي. كنت بسبب عشقي للسينما في المرتبة الأولي، وكذلك عملي التليفزيوني في تغطية فعاليات المهرجانات السينمائية. كنت في جميع المرات لا أمتلك دعوة لحضور فيلم الافتتاح. فقط "البادج" الذي يتم توفيره لفريق العمل التليفزيوني والذي لم يكن يسمح لنا بالمرور عبر البوابة الداخلية، وبالتالي قاعة المسرح الكبير. لكنني كنت دائماً مع التجربة والإصرار أعلم أن هناك ثغرة يمكن الإفلات منها لمشاهدة فيلم الافتتاح من دون دعوة.

كنت أظل أعمل كالنحلة، وعندما أُدرك أن موعد الفيلم اقترب - حتى وإن لم ننتهِ تماماً من التصوير مع جميع الضيوف والنجوم - أخبر زملائي بأن دوري معهم انتهي، والآن تبدأ رحلة المشاهدة.

ما أكثر الحجج التي ذكرتها لرجال الأمن على البوابة، والتي لا أتذكر منها شيئاً الآن. فقط أتذكر دوما لقطة لى وأنا أتمتم لهما على عجل ببضع الكلمات وأشير بيدي قبل أن أهبط لأعبر السلسلة الحديدية وأختفي بسرعة البرق، وفجأة أجدني جالسة أمام الشاشة العريضة بالمسرح الكبير لملاحقة أبطال فيلم الافتتاح.

كان دوما هناك

دوما عقب الافتتاح تجد القاعة شبه فارغة، عدد محدود جدا يتبقى، يُفضل متابعة الفيلم على السهر والحفلة.

ودوما، هناك، وسط كل هذا الدفء بقاعة السينما كنت ألتقي يوسف شريف رزق الله. أراه عقب نهاية كل فيلم افتتاح. على مدار أكثر من عشرين عاماً تكرر المشهد. يبتسم في بعض المرات بود إن التقت الوجوه.

في بعض المرات صورنا معه وأجرينا حوارات عن السينما وأفلامها، عندما بدأت العمل على كتابي عن أفلام الإنتاج المشترك ذهبت إليه بمقر المهرجان، استقبلني بوجه بشوش كعادته، اقترح على أحد الشخصيات. أخبرته بمخاوفي من سرقة الفكرة. صمت قليلاً متأملا المكتب أمامه. رفع وجهه مبتسماً: "إذًا فقد أُغلق هذا الباب". أخبرني أنه مؤكد لديه وثائقي ومعلومات لكن مكتبته مزدحمة ويحتاج لإعادة البحث.

على مدار سنوات كنت أذهب إليه عندما أراه أثناء فعاليات مهرجان القاهرة وأسأله: أستاذ يوسف ممكن ترشح لي الأفلام الأكثر أهمية لمشاهدتها؟ فيبتسم ثم يمر بالقلم على برنامج عروض الأفلام، وأثناء ذلك يُخبرني لماذا يفضل هذا أو ذاك.

طوال تلك السنوات أيضاً لم أتوقف عن التساؤل لماذا لا يكون هذا الرجل هو رئيس مهرجان القاهرة السينمائي؟! خصوصاً عندما أدركت أنه مَنْ يختار الأفلام التي كنت أستمتع بمشاهدتها بالمهرجان. كانت الردود دوما في الكواليس أن هناك سيدة حديدية هي الرئيس الفعلي وهي التي تحرك الأمور وتدير رئيس المهرجان نفسه.

لاحقاً وبعد سنوات طويلة، عندما عرض المنصب بالفعل عليه ورفضه، أدركت أن يوسف شريف رزق الله لم يكن يشغله أو يهمه منصب الرئيس. الرجل كان يحب دور المدير الفني، يحب السفر إلى مهرجانات السينما والحياة بين صالات وقاعات عروض الأفلام لاختيار الأفضل من بنيها.

كنت أشاهده وهو يتنقل بسرعة بين قاعات السينما أو على درجات السلم في مهرجان كان، أحياناً في طريقه إلى صناديق الصحفيين والنقاد، أو عقب الخروج أو الدخول إلى فيلم سينمائي، وأمام القاعات السينمائية في "كارلوفي فاري" السينمائي العام الماضي، أحياناً بصحبة زوجته وأحياناً بمفرده. وفي مهرجان برلين أيضاً، فحتى في أصعب لحظات المرض، كان حريصاً على الحضور، فقد نُقل إلى المستشفى في أحد الأعوام أثناء فعاليات مهرجان برلين، ومع ذلك أصر على المواصلة.

شهادة منه

أتذكر عندما هاتفني للمرة الأولى. كنت كتبت نقداً تقييماً حول دورة مهرجان القاهرة بجريدة الحياة اللندنية، هاتفني لتوضيح الأمر بعتاب، كان ردي: "أستاذ يوسف.. أنا كتبت هذا من باب الغيرة على مهرجان تُنظمه بلدي وأُريد له الأفضل دوما. وهو قادر على أن يكون الأفضل" فرد قائلاً: "أمــل.. أنا أعرف أن إخلاصك الأول لقاعة العرض السينمائي وللفيلم السينمائي".

كانت تلك الجملة بمثابة شهادة كبيرة منحتني سعادة، خصوصاً عندما وجدت زملاء يُرددونها. وحينما كان يلومني البعض بشأن نقدي اللاذع لبعض كتب الزملاء كنت أُعيد ترديد جملة يوسف شريف رزق الله عليهم. ولذلك عندما هاتفني مرة أخرى يخبرني بأنه اختارني؛ لأكون أحد أعضاء لجنة المشاهدة بمهرجان القاهرة السينمائي فوافقت فقط لأنني خجلت من رفض طلبه. كنت من تجارب سابقة أُدرك أن عمل اللجنة يستهلك الوقت والجهد بشكل مرعب. صمدت، لكن بعد شهرين تقريباً قررت التوقف والاعتذار له، خصوصاً عندما أدركت أن رأي اللجنة استشاري، وأنه يمكن أن تُقيم فيلماً بأنه عظيم ومهم لكن يتم استبداله بآخر، أقل في المستوى، لأسباب إدارية أو لصعوبات ما. أخبرته أن الأمر يقتل لي وقتي وأن لديَّ مشاريع صارت مؤجلة، فتفهم الأمر، وصرفوا لي مستحقاتي كاملة.

رغم أني شاهدته مرات عدة وهو غاضب، بل كان ثائراً في بعضها، شاهدت الحزم في توجيه القرارات بشكل يخلو من التردد، لكنني سأظل أتذكر ابتسامته الطفولية الجميلة تملأ وجهه البشوش دوما في كل اللقاءات التي جمعتنا، ولن أنسى أبداً قدرته على التسامح والتصالح برقي. فرغم أننا اختلفنا لاحقاً بسبب منع إدارة مهرجان القاهرة السينمائي عرض فيلم تامر السعيد "آخر أيام المدينة"، ورغم أنني كتبت أربعة مقالات أُفند فيها الأخطاء والمغالطات التي وقع فيها المهرجان بشأن تعاملهم مع الفيلم والمخرج، ورغم أن العلاقة بيننا توترت لبعض الوقت، لكنني لن أنسى أبداً اتصاله الهاتفي أثناء مرض زوجي د. شريف حتاتة ليسألني عن أخباره الصحية، ويخبرني أنه عثر على الدواء الذي نحتاجه فشكرته لأننا كنا قد عثرنا عليه بمساعدة بعض الأصدقاء.

عزيمة الشباب

لن أنسى لقاءه العام الماضي بمهرجان "كارلوفي فاري"، فعقب مشاهدتي أحد الأفلام كنت أنتظر أمام قاعة المشاهدة على الكمبيوتر، فإذا به قادماً من بعيد مسرعاً بحماس وعزيمة الشباب رغم ظروفه الصحية الصعبة والإرهاق البادي عليه. كان يبتسم بود، مد يده وسلم كأن شيئاً لم يحدث، كأنه لم يدب بيننا خلاف عنيف بسبب منع فيلم سينمائي. سألني ماذا سأفعل؟ ثم أخبرني أن هناك فيلماً مهماً في تلك القاعة، وانتظر قليلاً حتى تلحق به زوجته قبل أن يبتلعه ظلام قاعة العرض.

اليوم - بعد أن جاءني خبر رحيله قبل عدة أيام - أتأمل مسيرته، لقاءاته المتلفزة مع نجوم السينما العالمية بصحبة سمير فريد وأشرف فهمي وآخرين، محاولاته وجهوده في التوثيق السينمائي والتي توقفت بسبب مشاغله العديدة، أتذكر مراحل الوعي السينمائي عندي الذي ساهم هو في تشكيله، حتى ولو بدرجة ما. أُفكر في آخرين أحبوه، وارتبطوا به، وفي الميراث الإنساني الذي تركه من ورائه، فأشعر أنه لم يرحل، وأنه لا يزال يعيش بيننا، وربما لسنوات طويلة أيضاً.

إعلان