لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

بريد هدى بركات

محمود الورداني

بريد هدى بركات

محمود الورداني
09:00 م الخميس 14 مارس 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لا تسلّم رواية هدى بركات الأخيرة" بريد الليل"- دار الآداب اللبنانية- نفسها لك بسهولة، أو هذا ما حدث معي على الأقل، فقد تخلّت الكاتبة طواعية عن أدوات الكاتب وطرقه وأساليبه. تخلّت ليس عما يسمى بالحبكة فقط، بل تخلّت أيضا عن حدث ما ينمو، عن شخوص يجري بينها شيء ما، ولا أظنها مصادفة أنه ليس هناك أسماء لأشخاص في الرواية على كثرة عددهم، وليس مصادفة أيضا أن البوسطجي الذي تختتم به بركات روايتها انهار العالم على رأسه مثلما انهار مركز البريد الذي يعمل فيه، وانهار البلد الذي يعيش فيه، ولم تعد مهنته ذاتها، أي توصيل الرسائل، ممكنة. والأكثر فداحة إنه قد يموت قبل أن يتمكن أحد من الوصول إلى مركز البريد." من يدري؟" وهما الكلمتان الأخيرتان في الرواية.

السطور التالية ليست نقدا لهذا العمل الثقيل الوطأة، والبالغ الاتساع على الرغم من قلة عدد صفحاته ( 126 صفحة) بل هي مجرد انطباعات كاتب يسعى للاقتراب من بريد الليل.

ثلاثة أقسام تضمها الرواية، ولا علاقة "ظاهرية" تربط بينها، وهنا تحديدا إنجاز ومهارة ودقة بركات، وهنا اختيارها أيضا : أن تكتب وقد استبعدت وتخلّت واستغنت عن إرث طويل من الكتابة السابقة لصالح مجهول تشتغل عليه.

ففي القسم الأول" خلف النافذة" هناك خمس رسائل تتوالى لخمسة أشخاص بلا أسماء، والحقيقة أن هذه الشخصيات لا تحتاج لأسماء، مثلما لا تحتاج شخصيات المرسل إليهم إلى أسماء، وهي أمور متعمدة من جانب الكاتبة ولا شك.

الرسالة الأولى لرجل في أحد المنافي يوجهها لامرأة بينه وبينها علاقة شائهة ملتبسة بعد أن أدمن الكوكايين، وبعد فصله من جريدة يصدرها عسكري انقلابي" ليعلّم الخليقة أصول الديمقراطية"، ليجد نفسه معارضا بعد رفض تجديد جواز سفره. لا تصل الرسالة للمرسل إليه، شأنها شأن الرسائل التالية، وتقطع الرسالة رحلة طويلة بين أيدي أصحاب الرسائل التالية دون أن تصل أبدا.

الثانية لامرأة تقضي ليلتها ويومها التالي في انتظار رجل عرفته منذ أكثر من عشرين عاما، واتفقا أخيرا على اللقاء بعد أن يطير إليها من كندا. يصل الرجل متأخرا بينما تكون هي قد رحلت، لكنها صادفت الرسالة الأولى غير مكتملة ومطوية داخل دليل الفندق الذي لم يعد أحد يستخدمه. لا نعرف جنسية المرأة إلا من خلال الكلام عن أم كلثوم وعبدالحليم. الرسالة الخامسة من واحد لأمه من وحي قراءته للرسالة الأولى التي ألقت بها امرأة الرسالة الأولى داخل إحدى الحاويات في المطار.. وهكذا تتوالى مصائر الرسائل، لكنها لا تصل أبدا، مثل رسالة العاهرة التي تعود إلى بلدها، فتجد ابنتها قد تم بيعها في بلد عربي، وترتكب عددا من جرائم القتل والسرقة.

أما القسم الثاني" في المطار" فهو مكتوب بضمير المتكلم (ليس بوصفه رسائل، بل استعادة وكشف لجانب آخر يمت بصلة لكل رسالة). فحبيبة صاحب الرسالة الأولى تتناول علاقتها الملتبسة بحبيبها الذي تعرّفنا على جانب منه في الرسالة الأولى. ويقرر الرجل الذي تأخر وهو في طريق سفره من كندا ليلتقي بفتاة عرفها منذ عقدين من السنين، يقرر العودة وعدم استكمال المغامرة.. وهكذا تتوالى أيضا بقية المشاهد الخمسة المناظرة والمرتبطة بوشائج ما بالرسائل الواردة في القسم الأول.

هكذا أيضا تشيّد بركات روايتها بلا حدث ولا حبكة ولا حدث ينمو ولا شخوص في علاقة مباشرة، ومن خلال لغتها التي عرفها القارئ في أعمالها السابقة: لغة متقشفة باردة ترفض الغنائية بحسم وبلا تردد، تسعى للدقة فقط، وتقوم على الاستبعاد والاستغناء إلى الحد الأقصى أيضا.

وأخيرا وفي القسم الثالث" موت البوسطجي"، الذي جاء من خارج مسرح الرواية، تختتم بركات المأساة العبثية بمونولوج للبوسطجي الذي انتُزعت منه مهنته ولم يعد قادرا على توصيل الرسائل بعد أن اندلعت الحروب، داعش وغير داعش، وها هو ينتظر الموت.

على أي حال أمتعت هدى بركات قارئها وقدّمت عملا فريدا بحق.

إعلان