لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

 تقييمي لجوائز مهرجان برلين التاسع والستين

د. أمل الجمل

تقييمي لجوائز مهرجان برلين التاسع والستين

د. أمل الجمل
08:51 م الثلاثاء 19 فبراير 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بداية، لم تكنِ الدورة التاسعة والستون من مهرجان برلين سيئة، كما وصفها البعض، ولم تكن أقل الدورات مستوًى على مدار العقدين الماضيين، كما زعم البعض أيضاً؛ فقد حضرْت دورة عام ٢٠١٥، وكانت أضعف بكثير، وأتذكر حينها أن الناقد السينمائي سمير فريد، عندما أخبرته بأني فضلت مهرجان كليرمونت فيراند على برلين؛ إذ لم تعجبني أفلام الأخير، أجابني بأنها أضعف الدورات، على مدار السنوات التي حضرها.

أما تحفظي الأول؛ فهو أنه كان هناك فيلم واحد على الأقل- هو «سافوفي»- مهم جدا إلى درجة يستحق معها أن يكون ضمن الأفلام المتنافسة بالمسابقة الرسمية في مهرجان برلين السينمائي التاسع والستين. لكن لا ندري على أي أساس تم إلحاقه ضمن قسم «البانوراما»، وما المقاييس المعمول بها في ذلك.

على صعيد آخر، شاركت أفلام ضعيفة المستوى بالمسابقة، مثل فيلم «مستر جونز» من الإنتاج المشترك بين بولندا وإنجلترا وأوكرانيا، ومثله الفيلم الكندي «أنطولوجيا مدينة الأشباح»، كما في عنوانه الإنجليزي «Ghost town Anthology»، وكذلك فيلم «إليزا ومارسيل» وهو فيلم إسباني شاركت في إنتاجه نتفليكس، مثلما تتولى توزيعه، وهنا تأتي مشاركة نتفليكس الضعيفة مثيرة للتساؤل، فبينما كانت مشاركاتها- التي تتجاوز ستة- في الدورة السابقة من مهرجان فينيسيا عالية المستوى حتى إن إحداها «روما» حصدت أهم الجوائز الدولية! لكن هنا في البرليناله يقتصر الأمر على فيلم متوسط القيمة رغم أهمية موضوعه؛ إذ يتناول قضية المثلية عند النساء في ظل مواجهة ورفض المجتمع البطريركي لها، وتعرض أصحابها للمحاكمة والعنف المجتمعي، لكن السيناريو أفرط في المشاهد الغرامية من دون أن يعمق مضمونه بشكل لافت.

إما السباحة أو الغرق

والأفلام الثلاثة السابقة بينها اثنان من إخراج النساء- من إجمالي سبع مشاركات نسوية- مما يعني أنه ليس بالضرورة قبول أفلام من توقيع المرأة لمجرد أن مَنْ صنعها نساء، فهذا لا يخدم المرأة، ولا يدعم قضيتها، مثلما لن يدفعها للأمام.

المنافسة الشرشة أحياناً تكون الحافز الحقيقي. وفي ذلك الإطار- شخصياً- أُفضل ما فعلته إدارة مهرجان فينيسيا في الدورة السابقة؛ إذ خلت مسابقتها من أفلام نسوية الإخراج، ولم تشغل بالها بأن تقول إنها مع النساء، فهذا الشعار يكون دعائيا ومُضرا أحياناً، ولذلك وصف البعض ما فعلته فينيسيا بأنها تقول للنساء المبدعات: «إما السباحة أو الغرق».

تعويض آخر حصل عليه الفيلم الصربي «سافوفي» Savovi، كما في لغته الأصلية- أو «Stitches» كما في عنوانه الإنجليزي- عندما فاز بالجائزة الثانية للجمهور في قسم الأفلام الروائية بالنوراما.

الفيلم إنتاج مشترك بين خمس دول هي الصرب، وسلوفانيا، وكرواتيا، والبوسنة، والهرسك. من إخراج ميروسلاف تيرتسيك، عن قصة حقيقية، وقد كتبت له السيناريو إلما تاتاراجيك.

تدور أحداث فيلم «سافوفي»، الذي كان بشهادة كثيرين يستحق أن يكون بأفلام المسابقة الرسمية، حول أم ما زالت بعد ١٨ عاماً تؤمن بأن طفلها لا يزال على قيد الحياة.

كان الأطباء وطاقم التمريض أخبروها في المستشفى عقب ولادته بأنه مات، لكنها لم تصدق، وتظل تنتظره، وتبحث عنه طوال تلك الأعوام، إلى أن تقودها خيوط البحث إلى حقيقة وضع ابنها.

أهمية الفيلم المقتبس عن أحداث حقيقية عانت منها آلاف الأمهات في الصرب، أولا، أنه يكشف عن منظومة الفساد التي يتواطأ فيها فريق العمل بالمستشفى، في ظل حماية رجال البوليس؛ إذ يتم سرقة الأطفال حديثي الولادة وبيعهم لأسر لا تنجب.

وثانيا، المعالجة الفنية والسرد التلقائي البسيط المعبر المنسوج بإيقاع مثير للتوتر والتشويق الدرامي، والمقتصد في حواره وفي لغته، مع ذلك يُحرك مشاعرنا، ويجعلنا نتفاعل مع الأم ونتذوق ألمها ومعاناتها، ونصدق التحول في شخصية الابنة التي تعامل أمها بجفاء، ويكاد يكون التواصل بينهما شديدَ الارتباك؛ فالابنة ترى الأم قد أهملتها، ولم تمنحها الرعاية بسبب انتظار شيء وهمي لن يتحقق.. هو عودة الابن الغائب.

لكن في لحظة ما، بدت شديدة التلقائية، والعفوية، عندما تقع في يد الابنة معلومة عن الأخ يتحول موقفها، وتبدأ هي في رحلة البحث عنه بنفسها. على جانب آخر تم تجسيد العنف السلطوي المتنكر خلف الابتسامات والنصائح بطريقة مفزعة وبالغة المهارة الفنية.

حظ السينما الألمانية

شاركت ألمانيا في المسابقة الرسمية فقط بأربعة أفلام، منها ثلاثة بتوقيع نساء إلى جانب المخرج فاتح أكين، بينما يكاد يبلغ عدد الأفلام الألمانية المشاركة في المهرجان بأكمله وفي جميع أقسامه نحو ١٥٠ فيلماً، ما بين طويل وقصير وثائقي وروائي، وتليفزيوني.

المفاجأة أن تحصد اثنتان من المخرجات الألمان أهم جوائز البرليناله التي بلغت عددها بالمسابقة ١٦ فيلماً بعد أن تم سحب فيلم المخرج الصيني زانج ييمو «ثانية واحدة» الذي انتظره كثيرون، وتوقعوا أن يرفع مستوى أفلام المسابقة.

لا يمكن إنكار أن مخرجة ألمانية على الأقل تستحق الجائزة، وكان متوقعًا ألا تخرج خاوية اليدين، وهي المخرجة والمؤلفة نورا فينجشايدت التي حصلت على جائزة الدب الفضي ألفريد باور لأفضل إسهام فني عن فيلمها «تصدع النظام».

لكن المخرجة أنجيلا شانليك التي فازت بجائزة الدب الفضي، كأفضل مخرجة عن فيلمها «إش فار تسو هاوزا أبا»- كما يُنطق بالألمانية- ويعني «كنت في المنزل، ولكن»، فالحقيقة أنه فيلم لم يعجب الكثير جدا من النقاد، وظهرت علامات الاستهجان، عندما تم إعلان فوزه.

إذا كانت الجوائز الأخرى بالمسابقة ذهبت لمستحقيها، وكان بعضها متوقعاً كما في الفيلم الإسرائيلي «مترادفات»، لكن في رأيي الشخصي، أن فيلم فاتح أكين «القفاز الذهبي» هو الأقوي والأحق بالجائزة من فيلم أنجيلا، لكن على ما يبدو أن الأمر ليس فقط تحيز للمرأة، ولكن في تقديري أن توقيع المخرج الألماني من أصول تركية فاتح أكين على بيان ضمن نحو ٨٠ سينمائيًا ومثقفًا ألمانيا يطالبون فيه برحيل ديتر كوسليك عن المهرجان وتولي مدير فني آخر للمنصب، مؤكدين على ضرورة تغيير سياساته ومنح السينما الألمانية حظاً أوفر، أعتقد أن هذا التوقيع لعب دوراً في نفوس لجنة التحكيم خصوصا في تلك الليلة التي يودعون فيها رئيس المهرجان ديتر كوسليك، ويحتفون به.

أما لماذا لا أعتقد أن جائزة أنجيلا شانليك تحيزا للمرأة؟ لأن الممثلة الألمانية فاليري باشينيه كانت تستحق جائزة أفضل ممثلة عن دورها بفيلم «الأرض تحت قدمي»، لكن الجائزة ذهبت إلى الممثلة الصينية بطلة فيلم» طويل جداً يا ولدي». ربما، وحتى لا تكون حصة السينما الألمانية من الجوائز زائدة عن الحد، فتم التضحية بالبعض لصالح البعض الآخر، وربما لأجل التوازانات، ولكن الأهم ألا نغفل أهواء وأذواق لجنة التحكيم.

دوجما ٩٥

فيلم أنجيلا شانليك الذي أغضب بفوزه الكثيرين يمكن وصفه بأنه يحاول أن ينتمي لسينما الدوجما التي ظهرت عام ١٩٩٥، فهل نجحت المحاولة؟ وهل جاء العمل في قوة عدد من أفلام تلك الموجة؟ التي نذكر منها أفلاما لارس فون ترير- أحد رواد تلك الحركة- مثل «تكسير الأمواج» «دوجفيل»، وراقصة في الظلام»؟

هل نجحت المخرجة الألمانية في تقديم عمل مماثل في قوته الفكرية، وليس فقط في الجانب الشكلي، أو بتقديم عمل له خصوصية ومغزى يمكن للبعض فهمه؟!

تبدأ المخرجة فيلمها بلقطات واعدة تجعلنا نتوقع الكثير، حيث في الغابة كلب يطارد أرنب، الأرنب مستميت في الجري إنقاذا لحياته، حتى يصل إلى مكان يلتقط أنفاسه، المتسارعة. ثم في اللقطة التالية نري حمارا أو بالأحرى «جحش»، يدخل إلى مكان ما بسكن مهجور، فيرى الكلب وهو يمزق فريسته، ويلتهم لحمها. يرمقه الجحش، ويقف في الجانب الآخر يطل على الشارع.

تعود الكاميرا للكلب، وقد انتهى من فريسته، ولم يعد بها شيء يرضيه، فيخرج من الكادر.

في اللقطة التالية نرى الكلب راقدًا في سلام وسكينة أسفل قدمي الحمار الذي يقف في هدوء تام من دون اعتراض، قبل أن يلتفت إلى المُشاهد. وهي ذاتها اللقطة التي تختتم بها المخرجة فيلمها.

يتضح المعني المبطن للقطات السابقة من لقطة حوارية في الثلث الأخير للفيلم نري فيها البطلة -أم تُدعي أستريد توفي زوجها ولديها أطفال- تحاول اللحاق بمخرج تعرفه، لتناقشه في فيلمه الذي عرض علي الطلاب، بينما نحن كمشاهدين لم نره. تخبره أن الفيلم فاشل لأنه وضع الممثلين في مواجهة امرأة ميتة حقيقية. المرأة الميتة هنا لا تمثل، ولا تتظاهر، ومن خلالها يمكن رؤية الحقيقة. بينما الممثلون يتظاهرون، ولا يمكن من خلال أدائهم الكشف عن الحقيقة، إذن الفن لا ينقل الواقع، ويفشل في نقل الحقيقة، فهو يتظاهر بنقلها.

من الحوار السابق أو بالأحرى المونولوج الذي يتم على لسان البطلة الأم يتضح مغزى لقطتي الحيوانات في بداية الفيلم ونهايته، فالحمار لا يمثل، والكلب، وكذلك الأرنب. إنهم صادقون، لأنهم لا يمثلون، فهم ينقلون الحقيقة.

الحديث السابق يجعلنا نتساءل: هل تعيد المخرجة على أسماعنا ترديد قواعد الدوجما؟

ولماذا لم تقدم معنى مغايرا يؤكد أهمية تلك القواعد في خدمة الفن والحياة؟!

وما المشكلة في أن الفن يُقلد الحياة، إنها فكرة قديمة جدا، وتعكس آراء أفلاطون ومدرسته في تعريف الدراما والفن بأنه محاكاة للواقع، وليس نقل الواقع، بأن الحياة نفسها تبدو كأنها خيالات وظلال نراها على جدران كهف.

بالطبع، هناك أفكار أخرى بالفيلم عن الوجود والكينونة، والتي يتم تفسيرها، من خلال غياب الصبي البالغ من العمر ١٣، لفترة، بالغابة دون أن ندري لماذا، لكن أمه أستريد تُبرر ذلك للمدرسين بأنه في مرحلة التفكير في الكينونة، لذلك توظف المخرجة مشاهد من مسرحية هاملت من خلال الأطفال. لكن كل هذا غير كافٍ، كما أن مشاهد الفيلم غير مترابطة والكثير منها مُبهم، وغير مفهوم.

إعلان