لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

رسائل الألفة.. "قصة قصيرة"

رسائل الألفة.. "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
09:01 م الجمعة 06 يوليو 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لا أعرف من أسماء الزهور سوى القليل، دوما كان بمقدوري القراءة عنها ورغبت في تمييزها وأحببت دوما أن أدرك ما يمنحه كل نوع منها من إحساس ما، وظلت الفكرة تطاردني، وشغوفا صرت أقف طويلا أمام أكشاك ومحلات الزهور لأختبر مدى معرفتي بها، سألت كثيرا وعشت محملا بالتجربة، وكنت أبحث دوما عمن يعرف أكثر ومن اختبر تنوعها بشغف يشابهني، وقد التقيت الكثير من الناس ولم يكن بينهم أبدا من يتقن ذلك، أقول إنني حاولت كثيرا وفشلت.

كثيرون يعرفون الزهور كأشياء طيبة في الكون، يجيدون التحدث عنها وصفا من الخارج، يقول البعض شيئا مما أعرفه ولا يضيف، وحين ينساب صوت عبدالوهاب أسأل كيف بشارة الخورى في هذه الأغنية إلى ذلك المعنى المراوغ:"أصفر من السقم أم من فرقة الأحباب.. يا ورد هون عليك".

مع الوقت أدركت أنه سيكون جائرًا أن تختزل علاقتك بالناس أو مدى قربك منهم في مجرد سؤال عن شغفهم بالزهور أو إحساسهم بها، ثم حين أعيد التفكير أقول: إن ذلك يبهجني وأخيرا من يهتم؟!

عند محلات الزهور المجاورة بدأت أعلم نفسى وأصنع خبرتي الصغيرة، يفاجئني أيضا عبر الوقت قدرتي على إدراك حالة الزهور، نعم فهى يصيبها التعب، تراه في اختفاء متدرج بطيء لنضرة أوراقها، ثم في تماسك شكل أوراق الزهرة وهى ترتقى صعودا وجاذبية نحو السماء من دون أن تحنى أعوادها أو يتهدل طرف أوراقها، هكذا صرت مع الوقت أعرف كيف تكون الزهور مؤرقة تمامًا أو مجهدة فتتغضن منكمشة فلا تصنع معها نداوة المياه شيئا فقد حسمت أمرها، وصرت أدرك أيضا أوان أول الذبول، إذ تتغطى القشرة الخارجية لسوق الزهور بلون يصير غامقا رويدا، وعندما صدر مؤخرا كتاب لعلماء غربيين عن قدرة النباتات والزهور تحديدا على بناء حالة استشعار وإحساس تتبدى في مظاهر كثيرة وكيف تعبر عنها حالة النباتات سعدت مطمئنا لمعرفتي بأحوال الزهور.

صرت أيضا أعرف علاقة الزهور بمن يبتاعها ويمضي بها، سأعرف متيقنا ذلك الذي يحملها ويذهب بلا اكتراث، حين يتناولها من البائع دون كثير من نظر واعتناء، ثم يمضي بها دون أن يلتفت، وسأعرف حال من يقفون ويسألون ويختارون، ثم تعلو وجوههم ابتسامة مستقرة، هناك تفاصيل أخرى تبدو واضحة تماما في ملاحظة النظر المختلس للباقة وكأنها تسير معك أو تسبقك وأحيانا كأنك لا تراها.

السيدة التي افتتحت محلا جديدا للزهور في الشارع المجاور والذى يبدو كواجهة عريضة ملحقًا بها حديقة خلفية صغيرة مفتوحة على فضاء، لديها أشياء كثيرة وتعرف حكايات كثيرة عن تاريخ الزهور وبلدانها، وتتذكر ضاحكة مقطعًا من أغنية محمد رشدي: "وبعتنا معاهم تذكار صورة وحبة أشعار"، فأقول حقا إنها رسائل الألفة، وتحكى أنها كانت لها كل صباح جديد وردة، أسألها من يحملها لك؟ تقول: أبي.

منذ توثقت معرفتي بالزهور صارت عيوني تبحث عن تفاصيل اختلافها الجميل، وأمنح الأماكن درجة محبتي وفق لون ورائحة وشكل زهورها، كل شرفة تحمل أثرا لزهرة هى حكاية عن إحساس وأخلاق أصحابها وعن تجربة في محبة الحياة.

تقول صاحبة محل الزهور الأنيق: مضيت أحمل في داخلي محبة الزهور كل الزهور، وحين زرت بلادا أخرى ورأيت الزهور في الشوارع وفى الطرقات وعلى منصات صغيرة ملحقة بالنوافذ عرفت سر بقاء الأماكن، وأحببت أن أصنع مساحة زهوري في هذا المكان الصغير، أقول: محبة الأشياء والتشبث بها هو شجرة الذكريات.

كل صباح حين أمر على محل الزهور ألقي التحية على العامل الذى يبدأ مبكرا وأنقل عيوني في اتجاه الزهور التي تبدو لي تطل محيية، ثم أمضي تلاحقني عبر الطرق الطويلة الممتدة أشجار غير متناسقة الحجم وبلا ظل، أشجار كثيرة لا تحمل ثمرًا ينمو بينها أعشاب بلا نظام، كل يوم أكرر السؤال: لماذا صرنا لا نرى الزهور في الشوارع والشرفات؟.

إعلان