لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

مؤسسات منسية

مؤسسات منسية

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

09:04 م السبت 28 أبريل 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

الثقافة المؤسسية لا ترتبط فقط بثقافة العمل داخل المؤسسات أو بالتقاليد المؤسسية الخاصة بكل مؤسسة، وإنما تشمل أيضاً فهم الرأي العام طبيعة وأهمية المؤسسات التي يتعامل معها.

ولطالما ارتبط الرأي العام المصري، سواء من المثقفين أو رجل الشارع العادي بمؤسسات الدولة يوميا. ويحضرني في هذا الشأن المقولة الشهيرة للرئيس الراحل أنور السادات: "نحن دولة مؤسسات".

ولكن عن أي مؤسسات نتحدث؟ وما الذي يسكن في وعي المواطن عندما نتحدث عن مؤسسات الدولة وأهميتها؟

بسؤال عدد من المواطنين عن مفهومهم عن المؤسسات تركزت إجابات بعضهم على الوزارات التي يتعاملون معها أو دواوين المحافظات.

والبعض الآخر ذكر البنوك وشركات الاتصالات. ومنطلق ذلك حجم التعاملات اليومية للمواطنين مع تلك المؤسسات. وهي إجابات في مجملها مفهومة؛ إذ تعبر عن علاقة المواطن بالواقع المؤسسي.

ولكن يغفل المواطنون- وفي بعض الأحيان صانعو القرار- مؤسسات أخرى مهمة، ولكنها منسية وغير مرئية، وليست في بؤرة التركيز، لكونها لا تتعامل بشكل مباشر مع المواطنين، على الرغم من أن دورها قد يكون حيويًا لضبط مسيرة عمل المؤسسات الأخرى فنيا، كما أنها ترتبط بشكل مباشر بتأمين حياة المواطنين.

ومن هذه المؤسسات جهاز حماية المستهلك. وقد صدر في هذا الشهر قانون حماية المستهلك الذي أقره مجلس النواب ليحل محل قانون رقم ٦٧/٢٠٠٦. ويهدف القانون الجديد إلى دعم دور هذا الجهاز الحيوي وتمكينه من ممارسة النشاط الاقتصادي بصورة سليمة ومنع الاحتكار وحماية حقوق المستهلك والعمل على تلبية احتياجاته من المنتجات والخدمات المختلفة، وضمان سلامة المستهلك وصحته عند استعمال المنتج أو تلقي الخدمات. ولنا أن نتصور حيوية هذا الجهاز! لارتباطه بكل الشرائح المجتمعية في كافة أنحاء الجمهورية ولإشرافه على سلامة العلاقة بين المواطن والسوق، ومسئوليته أيضاً عن درجة الثقة التي يوليها الجماهير في المنتجات والأسواق المصرية.

ومع الأسف؛ لم يلتفت صانع القرار على مدى الثلاثين سنة الماضية لأهمية هذا الجهاز، وبالتالي لم يحظ بعناية المسؤولين والإعلاميين في متابعة نشاطه وأدواره إلا في السنتين الماضيتين؛ فهذا الجهاز على اتساع مسؤولياته وعلى أهمية الدور الرقابي والتوعوي الذي يلعبه وارتباطه بالتجار والمستهلكين- يظل منسيا من حيث إمداده بالمزيد من العمالة المدربة والمتخصصين من جهة، والاهتمام ببنيته المادية الإلكترونية والمكانية، وتوفير التسهيلات له وبتحليل موضوعات الشكاوى التي ترد له لتعزيز حماية الأسواق المصرية ولطمأنة المواطن بوجود ظهير مؤسسي يقوم على حماية صحته وماله وقراره الاقتصادي من جهة أخرى.

ولنا أن نتصور خطورة دور هذا الجهاز في المستقبل، نظرا لاتساع استخدام وسائل التوصل الاجتماعي والشراء الإلكتروني والتجارة الإلكترونية، وتغير تفضيلات الشباب- وهم يمثلون أكثر من نصف عدد سكان مصر- من حيث تفضيل المعاملات الاقتصادية الإلكترونية على ما دونها من معاملات اقتصادية مباشرة. وأحسن مجلس النواب حين طالب بإنشاء فروع للجهاز في المحافظات المختلفة والارتقاء بدوره بما يتناسب مع خطط التنمية الاقتصادية والاستثمارية.

الجهاز الثاني المرتبط بجهاز حماية المستهلك هو جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية. فكيف يمكن حماية المستهلك والحد من الممارسات الاحتكارية التي تجعل المستهلك رهينة وفريسة لعدد من أصحاب الأعمال والتجار والمستثمرين الذين يحتكرون سلعا بعينها، ومن ثم يتحكمون في تسعيرها؟!

وينطلق عمل هذا الجهاز من شعار "اقتصاد أقوى لحياة أفضل"، والحياة الأفضل هنا لابد أن تشمل جميع أطراف المعادلة: التاجر والمستثمر والمستهلك أيضا. ويعمل هذا الجهاز وفق القانون ٣/٢٠٠٥، حيث تقوم فلسفة القانون على حماية حرية المنافسة في النشاط الاقتصادي. فلا منافسة في ظل احتكار. والاحتكار الذي عرفه القانون هو قدرة الشخص الذي تزيد حصته على ٢٥٪ من تلك السوق على إحداث تأثير فعال في الأسعار.

فكم من شخص أو شركة تزيد حصتها في منتج أو خدمة بعينها على ٢٥٪؟ أعتقد أن العدد كبير.
كما لنا أن نتصور عدد القوانين التي يرتبط بها قانون الجهاز، ومنها على سبيل المثال، وليس الحصر قوانين الاستثمار وحماية المستهلك وتنظيم المناقصات والمزايدات والقانون المرتقب للمشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، وغيرها من القوانين المهمة.

وفي الواقع، فإن هذا الجهاز يحتاج لتعديل التشريع المنشئ له ليتحول من جهاز تابع ينتظر تلقي طلبات الاستقصاء والتحري لجهاز مبادئ ومنظم لحركة السوق. وألا تشمل التعديلات التشريعية تغليظ العقوبات فقط، لأن المحتكر لديه دوما القدرة على دفع الغرامات المالية التي لا قد لا تشكل خسارة له، في مقابل المنافع التي يتحصل عليها من جراء ممارسة سياسات احتكارية.

المؤسسة الثالثة هي المركز القومي لبحوث الإسكان والبناء. وقد صدر أول قرار بقانون بإنشاء المركز برقم ٤٩٥/١٩٥٤، باعتبار المركز شخصية اعتبارية مستقلة. وتوالت التعديلات على هذا القانون حتى جاء آخر تعديل عليه بصدور قانون رقم ٦٣/٢٠٠٥ بإعادة تنظيم إنشاء مركز بحوث الإسكان والبناء.

ومن الأهمية بمكان الالتفات لعدد ونوعية المعاهد التي يضمها هذا المركز مثل معهد بحوث مواد البناء وضبط الجودة ومعهد بحوث المنشآت الخرسانية ومعهد بحوث العمارة والإسكان ومعهد بحوث الهندسة الصحية والبيئة، وغيرها من المعاهد. ومما لا شك فيه أنه عندما يعلم المواطن بوجود هذا المركز سيتساءل على الفور عن دور المركز في وضع وتطبيق ومراقبة تطبيق الأكواد ومواصفات بنود الأعمال، وكيف في ظل وجود هذا المركز نستيقظ كل أسبوع على كارثة سقوط عقار هنا أو هناك؟!

إن أهم دور يجب تمكين هذا الجهاز منه هو اعتماد المنشآت ورقابة تطبيقها للأكواد. وأن يكون هذا الأمر إلزاميا، فلا تصدر رخصة بناء بدون اعتماد المركز لها. وأن يتعدى دوره الصفة الاستشارية الاختيارية إلى أن يكون بالفعل مستشارا للحكومة في كافة الإنشاءات بالتعاون مع الجهات الأخرى ذات الصلة.

المؤسسة الرابعة هي الهيئة القومية لسلامة الغذاء. والغذاء مرتبط بالاستهلاك والإنتاج وبصحة الإنسان وبقدرته على البقاء. ومنذ عدة سنوات، وعقب تكرار حوادث التسمم المدرسي والغذاء غير المطابق للشروط الصحية، زاد الشك في نفوس المستهلكين من جهة سلامة الغذاء المفحوص نتيجة للتضارب الحادث في نتائج الاختبارات المعملية التي يتم إجراؤها في معامل الجهات المختلفة، والتحذيرات الصادرة من جهات عديدة. بل نجد هذا الأمر مرتبط أيضا بشكل مطرد بالتصدير وباطمئنان وثقة السائح بالغذاء المتداول. وتنبع أهمية هذه الهيئة من كونها هيئة ذات طبيعة اقتصادية رقابية شأنها شأن المؤسسات السابق ذكرها. فالغذاء الآمن له تأثير على زيادة الدخل القومي ورفع الثقة في منتجاتنا، وله تأثير على الحد من الأوبئة والأمراض وخفض تكلفة شراء الدواء.

الهيئة ليس لها مهمة أخرى سوى الرقابة على الغذاء في جميع مراحل تداوله والتأكد من سلامته. وحتما ستحتك الهيئة بالمنتج والمستهلك معا وبجهازي حماية المستهلك وتشجيع المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية.

وقد صدر قانون إنشاء هذه الهيئة عام ٢٠١٧ ليعطيها استقلالية في ممارسة أعمالها التي تشمل وضع المواصفات والترخيص والتفتيش والرقابة على تداول الأغدية. وتعتبر الهيئة في صدارة الهيئات القومية التي وضعت أسسا قانونية لتقييم وتحليل المخاطر. ومن ثم نتوقع منها أن تنشر مؤشرات للمواطنين عن سلامة الغذاء المتداول بدون الخضوع لأي ضغوط لا مسوغ لها.

إذن، نحن إزاء مؤسسات تمثل مركز الاقتصاد، ولا يمكن أن يكون لدينا تلك المؤسسات بدون الانتباه لها وتمكينها بشكل ملائم. فمن الأهمية بمكان أن يتم التركيز على النهوض بها، من حيث توفير الموارد المالية والبشرية اللازمة والتعريف بها لتترسخ أهميتها في وعي صانع القرار والمواطن.

كما يجب منحها الاستقلالية وأن تتحول إلى كيانات ناظمة Regulatory Bodies وفي التنبيه إلى هذا النوع من المؤسسات المنسية تشجيع لبناء ثقافة مؤسسية لدى المواطن تتعدى المتعارف عليه إلى تلك المؤسسات المرنة المرتبطة بحمايته بشكل مباشر.

كما أن الاهتمام بها يدعم التوجهات نحو لا مركزية الوعي بالمؤسسات، والنظر لها باعتبارها موجودة لتحسين حياة المواطنين والنهوض بالاقتصاد القومي.

إعلان

إعلان

إعلان