لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

مجدي الجلاد يكتب: العمارة في الأسانسير..!

مجدي الجلاد يكتب: العمارة في الأسانسير..!

مجدي الجلاد
08:37 م السبت 03 فبراير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لم يسقط أسانسير مستشفى بنها لإهمال في الصيانة، أو لتقصير في الإدارة.. فللكارثة التي قتلت ٨ مواطنين قصة أخرى..!

يقول الناس إن «البناية» بناها مصري قديم.. رجل طيب، كان يحلم بأن يأتي من بعده أبناء وأحفاد يكملون البنيان.. وعلى مر السنين تعاقب عليها الكثيرون..!

كانت العمارة أنيقة رغم بساطتها.. تولى إدارتها مديرون متعاقبون.. وكان روادها مصريين وأجانب متحضرين.. رجالًا يرتدون الموضة.. وسيدات هوانم لا تكاد تسمع أصواتهن من فرط «الرّقة»!..

كان المدير يدير العمارة العتيقة بفكر متقدم رغم ضعف الإمكانيات.. لم يكن مقبولاً أن يستقبل البواب ذو الملامح السمراء الجذابة أحداً دون انحناءة مؤدبة.. كان يرتدي زياً نظيفاً وطربوشاً مختلفاً عن الرواد.. وكان عامل الأسانسير يفتح الباب بذات الانحناءة، ويبادرك بكلمة من اثنتين «بونچور.. بونسوار».. كان الأسانسير بيته.. لذا فقد ظل أنظف من بيته، وأغلى من أبنائه.. هكذا علمه المديرون.. ولم يكن مقبولاً أن يمد يده، هو أو أي موظف أو عامل في العمارة، إلى أحد.. ويُروَى أنه ذات يوم دخلت الأسانسير سيدة تضع «إيشارب» على رأسها.. فقال لها العامل بصوت هامس «ألف سلامة يا هانم».. فردت «الله يسلمك يا علي».. لم يسأله أحد كيف عرفت أنها مريضة؟!.. الإيشارب على رأس هوانم ذاك العصر كان دلالة على ارتفاع درجة الحرارة..!

كان الأسانسير بيت عامله لذا فقد ظل أنظف من بيته وأغلى من أبنائه

عاشت العمارة قروناً وعقوداً طويلة على ذات الحال.. لم تنفجر ماسورة صرف، ولم «تخُرّ» ماسورة مياه على الجدران، أما السلالم فكانت تلمع نهاراً، وتضيء ليلاً.. حتى رحل هذا الزمن ببهواته وهوانمه وناسه منذ عدة عقود.. ومات «علي عثمان».. وبقي الأسانسير..!

نسيت أن أقول لكم إن رئيس الحي، ومدير الإدارة في العمارة، ومهندس الصيانة، وفني الأسانسير، ومسؤول النظافة، وفني الكهرباء، والسباك، والبواب، رحلوا كذلك.. بعضهم مات منزوياً في ركن سحيق، وهو يرقب ما حاق بالعمارة.. والبعض الآخر حزم حقائبه وذهب باحثاً عن زمن فات وانقضى..!

آلت العمارة لآخرين.. وبمرور العقود والسنوات تبدل كل شيء.. في البدء جاءوا بموظف كبير، وأسندوا له مهمة إدارة فريق العمل.. وجاء الموظف الكبير بموظفين صغار يدينون له بالولاء التام والطاعة العمياء.. المدير يحمل شهادة فوق المتوسطة «معهد سنتين»، ولكنه نسيب مسؤول كبير في المحافظة.. مسؤول الصيانة دبلوم صنايع، وابن خالة المدير.. مدير النظافة تولى وظيفته بخطاب تزكية من نائب برلماني.. فني صيانة الأسانسير ابن أحد قدامى العاملين.. أما بديل «علي» فهو «خليل» السايس.. إذ عيّنه المدير عامل أسانسير بعد أن أظهر كفاءة نادرة في حماية المكان المخصص لركنة سيارته في الشارع المزدحم.. وهكذا أصبح «خليل» عامل أسانسير في كشف المرتبات فقط.. بينما يمارس عمله في الشارع "سايس"، ولكن لا أحد يعرف له أصلاً أو فصلاً..!

العمارة العريقة تحولت إلى مستشفى عام.. وتعاقب على إدارتها طبيًّا حفنة من الأطباء الموظفين في دولاب الدولة.. كلهم تخرجوا في كليات الطب بتوجيه من مكتب التنسيق.. وبدوره تحول الأسانسير المتهالك إلى«ميكروباص».. إذ لم يطرأ عليه أي تجديد أو صيانة متخصصة.. وكلما تعطل جاء فني الصيانة والبواب وخليل لسحب الأحبال وتسكين الأمر بوضع قطعة حديد مخروطة في المواتير.. كان خليل يقول لهم في كل مرة عبارة واحدة «يا عم مشّي حالك.. المهم الأسانسير يطلع وينزل وبعدين همه الناس اللي بيركبوه يعني زي بتوع زمان؟!!!!»..يضحك خليل وفني الصيانة والبواب وهم يترحّمون على أبطال الصور التي تعلوها الأتربة في مكتب المدير.. إذ كانوا يتسامرون كثيراً في ساعات الليل وهم يسمعون حكايات زمان من عجائز المنطقة.. وكانت القصص كلها تجسد التغيرات والتحولات الحادة التي طرأت على المجتمع..!

تحول الأسانسير المتهالك إلى «ميكروباص» إذ لم يطرأ عليه أي تجديد أو صيانة متخصصة

تدريجيًّا.. اكتسى الأسانسير بقسمات وملامح الناس والعمارة.. القمامة تملأ الممرات والسلالم.. والمجاري طافحة في كل الجدران.. وخليل وزملاؤه والمدير يجمعون الأموال من الرواد، كل حسب حجمه..!

مرّ نصف قرن أو يزيد على رحيل الإدارة القديمة.. وحين سقط الأسانسير قتل ٨ أشخاص..فهرع الجميع بحثاً عن سبب ومسؤول عن الكارثة.. وحده «خليل» يعرف السبب، ولكنه لم يجرؤ على الكلام..!

لم ينتبه أحد لكشوف المرتبات.. اسمه «خليل علي عثمان».. ولايزال يتذكر آخر كلمات أبيه «الأسانسير يا ابني مش في العمارة.. العمارة هي اللي في الأسانسير».. كان الرجل يريد أن يقول لنا إن الأسانسير سوف يسقط بعد أن تنهار العمارة..!

.. ورغم سقوط الأسانسير تلو الأسانسير.. فإن "خليل" وولده "علي"، الذي أسماه على اسم والده، يحلمان بأن يرجع زمن الضمير.. والناس الحلوة.. والعمارة الفخيمة..!

اقرأ أيضًا:

بعد "حادث بنها".. 6 خطوات للتعامل وقت سقوط المصعد

قبول استقالة عميد "طب بنها" و4 مسؤولين إثر حادث "الأسانسير"

فيديو| سر نجاة عامل أسانسير بنها.. وشهود: "صرخ محدش يركب"

نقابة المهندسين بالقليوبية: "أسانسير الموت ببنها" غير مطابق لمواصفات الكود المصري للمصاعد

إعلان