لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

سلة الغذاء خاوية

سلة الغذاء خاوية

د. جمال عبد الجواد
09:00 م الجمعة 28 ديسمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

منذ تفتحت عيني على القراءة وأنا أقرأ أن السودان به من الموارد الزراعية ما يرشحه لكي يكون سلة غذاء العالم العربي. لم يمل الكتاب والسياسيين من تكرار هذه العبارة، ولم تتوقف الدعوة لتضافر رأس المال العربي وقوة عمل الفلاحين المصريين وأراضي السودان الخصبة من أجل تحقيق الأمن الغذائي العربي. لكن شيئا من هذا لم يتحقق، فلا السودان أنتج الطعام الذي يحتاجه العرب، ولا هو أنتج الطعام الذي يكفي احتياجاته، حتى خرج الناس للشوارع يحتجون على نقص الخبز والطحين وتقريبا كل شيء آخر، ناهيك عن ارتفاع الأسعار إلى ما فوق قدرة أغلب السودانيين على التحمل.

خروج الناس للشوارع في السودان أيقظ الحماسة لدى ثوريين بالفطرة؛ وهؤلاء هم فئة من المثقفين ما أن يروا الجماهير في الشارع, وما أن يسمعوا صدى هتافها، إلا وتنخلع عقولهم لهفة لثورة تملأ الأرض عدلا، بعد أن ملأها الطغاة جورا. لكن أغلب الناس في السودان، ومثلهم العارفين بالأمور خارجه، لا يشاركون الثوريين حماسهم، فقد جرب السودان كل شيء، ولم يفلح في أن يخطو خطوة واحدة للأمام، فلماذا سيختلف الأمر هذه المرة؟

في يناير 1956 فاز السودان باستقلاله؛ وقام في البلاد نظام برلماني، وتطلع الناس لأمطار الاستقلال والديمقراطية تهبط عليهم عسلا ولبنا، فلم يجنوا سوى مناورات السياسة وألاعيبها، وحصدوا معها الإحباط أيضا، فجاء الجيش للحكم في عام1958.

بقي اللواء إبراهيم عبود في الحكم ست سنوات جرى خلالها إعادة إنتاج إحباط سنوات الحكم المدني، حتى خلعته في عام١٩٦٤ ثورة شعبية عارمة، أقامت الديمقراطية البرلمانية لثاني مرة. لم تختلف الديمقراطية الثانية عن سابقتها، فكانت صراعات السياسة ومناوراتها، وكان التباطؤ في حل مشاكل التنمية والاقتصاد؛ فقفز الجيش على الحكم مرة ثانية عام 1969. ظل الجيش في الحكم هذه المرة فترة أطول، لكن في النهاية نجحت ثورة شعبية جديدة في عام 1985 في إسقاط نظام اللواء الرئيس جعفر نميري، لتقيم مكانه ديمقراطية السودان الثالثة. هل تغير شيء؟ أظنكم تعرفون الإجابة، فقد تمت إعادة إنتاج كل تلكؤ الديمقراطيات السودانية، وتآمر العسكريون للاستيلاء على الحكم من جديد في عام 1989؛ وطال الحكم العسكري بقيادة الفريق عمر البشير لما يقرب من ثلاثين عاما هذه المرة، وها هو نظام عمر البشير يواجه غضب الجماهير في مشهد بات مكررا. وفي الحقيقة، فإنه سواء أسفرت موجة الاضطرابات الحالية عن إجراء تغيير سياسي في السودان أم لم تسفر، فإن لا شيء يبرر الحماس والتفاؤل، إذ لا يوجد ما يدل على أن أحدا في السودان قد تعلم شيئا جديدا ومختلفا بعد أكثر من ستين عاما من الاضطراب السياسي والفشل التنموي.

لم تتح فرصة الحكم الديمقراطي لبلد في المنطقة بقدر ما أتيح للسودان، ولم تفشل النخب السياسية في بناء الديمقراطية والحفاظ عليها قدر فشل النخب السودانية. في البداية كان هناك أحزاب الطوائف المتناحرة الأنصار / المهدية والختمية / الميرغنية. أراد الأنصار الانفراد بالسلطة فأوعزوا للقادة العسكريين المقربين منهم للانقلاب على الحكم البرلماني في عام 1958. كرهت القوى الحديثة الراديكالية سيطرة الطوائف التقليدية، فنظم الضباط الناصريون والقوميون انقلاب 1969. في عام 1989 جاء الدور على الإسلاميين، فقام الإخوان بقيادة زعيمهم التاريخي حسن الترابي، بتنظيم الانقلاب هذه المرة.

السودان مصاب في نخبه السياسية التي تولت حكم البلاد منذ الاستقلال. ورثت النخب السودانية بلدا كبيرا في المساحة والسكان وفي تنوعه الثقافي الرائع، لكنها بدلا من الحفاظ على ذلك البلد وتنميته، فإنها دخلت في حرب أهلية ممتدة، كانت الأطول في تاريخ الحروب الأهلية في العالم، أهدرت فيها موارد البلد فأفقرته؛ وزرعت الكراهية وانعدام الثقة بين أهله، خاصة في ظل حكم الإخوان والبشير، حتى انقسم السودان إلى دولتين، وانفصلت عنه دولة جنوب السودان؛ وهي بالمناسبة ليست أفضل حالا من شماله، فقد أصابت النخب الجنوبية عدوى صراعات السياسة الموروثة عن نخب الشمال.

أعود لحكاية سلة الغذاء التي بدأت بها هذا المقال. نعم السودان يستطيع أن يطعم العالم العربي كله، ففي السودان أكثر من٦٠٠ ألف كيلو متر مربع صالحة للزراعة، يزرع منها أقل من 140 ألف كيلو متر مربع، بما يساوي أكثر من 40 مليون فدان، أي أكثر من ثلاثة أمثال مساحة الأرض المزروعة في العراق، وخمسة أمثال مساحة الأرض المزروعة في مصر. فمساحة الأرض المزروعة في السودان كبيرة بالفعل، وفيه فوق ذلك إمكانيات هائلة للمزيد من التوسع الزراعي. لكن كل هذه الأراضي لا تنتج ما يغني أهل السودان بسبب نقص التمويل، والنقص في مصادر الطاقة، وبسبب الاعتماد على تكنولوجيا ومعارف قديمة، وبسبب البنية التحتية المتهالكة، والأهم من كل ذلك بسبب غياب الدولة التنموية وسياسات التنمية التي تضع أهل السودان في القلب، وتضع موارده في العقل، فتصنع منهما تجربة نجاح، بدلا من التكالب والصراع على السلطة الذي لا ينتهي.

إعلان