لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الكفاءة... الأمل

الكفاءة... الأمل

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

09:00 م الأربعاء 31 يناير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أثلج الرئيس عبد الفتاح السيسي صدور الكثيرين حينما تحدث عن "النجباء"، ووصفهم بأنهم من يُخلصون ويتفانون في عملهم، ولديهم تجرد واقتدار، ولا يعرفون المجاملات... وهؤلاء هم من يجب تشجيعهم.

حديث يصب في صميم الإدارة الجيدة لهذا الطراز من الموارد البشرية، ورأس المال الحقيقي لأية دولة تطمح لأن تكون من أكبر ثلاثين دولة في معدلات النمو الاقتصادي بحلول عام ٢٠٣٠ الذي من الصعب أن يتحقق بدون تقدير النجباء من أبناء هذا الوطن العظيم في كافة المجالات.

وهذا الأمر هو مناط محاربة الفساد، والإهمال، وإهدار المال العام. وقد يظن البعض أن من يتحلون بهذه الصفات هم بالضرورة من الأكاديميين وحاملي الشهادات العليا، أو من أصحاب التخصصات الحقيقية، ولكن الواقع لا يخبرنا بأن هذه الخصائص والصفات يحملها هؤلاء فقط، وإنما أي إنسان مخلص في عمله، صغر هذا العمل أم عظم.

لنا أن نتصور لو أن هذا الإخلاص والإتقان في العمل وحبه أتى من عمال النظافة أو موظفي المحليات أو أصحاب المحال التجارية أو المعلمين أو الأطباء.. كيف كانت ستبدو صورة مصر في عيون أبنائها وعيون الآخرين! دعونا نحلم أن النجباء وأصحاب الهمم العالية والضمائر تم تمكينهم واختيارهم في مواقع تؤثر في حياة المواطنين... لنتخيل أننا استيقظنا في أحد الأيام ووجدنا الشوارع التي نتحرك فيها نظيفة ومنضبطة وهناك سلة من الورد على أعمدة الإنارة، وأن عمال النظافة اختفوا تماماً من الشارع ليتركوه لنا في أفضل وضع، وحارات مرورية من يتخطها يتم تعقبه في التو واللحظة لتحصيل غرامة منه.. وأن أبناءنا يعودون للمنزل وينهون واجباتهم المدرسية بدون مشقة وبدون تدخل الآباء والأمهات أو المدرسين الخصوصيين في تدريسها مرة أخرى. لنستكمل أحلامنا في وجود طبيب متفرغ للمريض، يعطيه من وقته وعلمه ويعالجه بشكل سليم، وفي وجود بائع أو تاجر يعلم أنه مراقب، وأنه لن يجرؤ على الاتجار في سلع فاسدة، أو لن يتحكم في أسعارها.

هل كل ما سبق ممكن تحقيقه على أرض الواقع وبعيداً عن عالم الأحلام والخيال؟ نعم ... الدليل دول حولنا وأخرى سبقتنا تعيش شعوبها تلك الأحلام على أرض الواقع، بل تحلم وتتطلع لأكثر من ذلك. لكن التساؤل الأهم يكمن في كيفية تحقق ذلك؟ كيف توصلت هذه الدول- التي يطلق البعض منا عليها كواكب أخرى في الكون- إلى هؤلاء النجباء وكيف أسندت لهم مهام ترتبط بحياة ورفاهية المواطن؟

الإجابة تكمن في الاختيار والمتابعة والتقييم السليم النزيه وفي التمكين.

إن الأمر لا يتطلب فقط تخصصات في مجالات بعينها أو تدريبات، وإنما يرتبط بتوافر قدرات لاكتشاف هؤلاء، كمن ينقب عن الذهب في النهر. والذهب نادر وهؤلاء نادرون...كما يحتاج إلى تغيير مفهوم وثقافة الكفاءة لدينا. فحينما أشار السيد الرئيس إلى هؤلاء، وضع لهم معايير محددةً، بعضها يرتبط بخصائص مهنية كالإتقان، والإتقان يستدعي العلم والتخصص والتدريب، والبعض الآخر يرتبط بخصائص نفسية سلوكية كالتجرد والإخلاص وعدم المجاملة. وأظن أن في هذه الخصائص حلاً للسؤال الحائر بين المثقفين والمهنيين وغيرهم حول معايير وكيفية اختيار المسئولين والقيادات في مصر.. وأضيف لهذا السؤال سؤالاً مكملاً، وهو كيف يتم اختيار وبناء قدرات أي فرد في مصر في أي مستوى وظيفي في الوظائف العامة تحديداً؟ وعما إذا كان المصريون يحبون ويفضلون هذه الصفات أم أن المزاج العام للشعب المصري قد يتجه في بعض الأحيان بعيداً عن صفات الكفاءة والاقتدار والتجرد والإخلاص؟ هل نحن مستعدون للدفاع عن هذه الخصائص ومناصرة أصحابها في كل المجالات؟ أسئلة تحتاج لدراسات جادة من قبل علماء الاجتماع وعلماء النفس تحديداً.

إن الأمل، وكل الأمل، في مجتمع منصف وبلد متقدم ومستقبل واعد يكمن في تطبيق الخصائص السابقة على كل فرد سواء أكان مسئولاً أم موظفاً عادياً. وهذا عين ما طبقته دول مثل اليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية وماليزيا والهند. وقد آثرت ذكر تلك الدول تحديداً لأنها أقامت اقتصادياتها وثقافتها على الأقدر والأكفأ والأكثر إنتاجاً وتأثيراً فيمن حوله.

ولا تبدو فقط أهمية الأكفأ والأقدر والأكثر تجرداً وإخلاصاً في القيام بالأعمال والمهام الموجودة، وإنما في إنقاذ الدول والشعوب من المخاطر المحدقة بها وابتكار ما يجنبها استنزاف ثرواتها ومواردها. فالكفء والمخلص لن يكتفي بعمله الطبيعي، بل سيضيف عليه جودة وفكراً جديداً. وإذا كان حب وإتقان العمل مذكورًا صراحة في الثقافة العربية والإسلامية "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه". والإتقان والتفاني في العمل والاجتهاد موجود بنفس الدرجة في الثقافات الغربية والآسيوية.

ومهم للغاية أن تتغير ثقافتنا في مصر وتنتقل من مجرد القيام بالعمل الموكول للفرد ليأخذ راتبه حسب نظام معين، ووفق عدد ساعات محددة، إلى ذلك الفرد الذي لا يعرف الكلل وينتج، فتمر الساعات بدون أن يحسبها، ويجند كل قواه وطاقاته لإنجاح عمله والتفاني فيه، ويحاول الابتكار فيه ليصل به إلى أرقى درجات الإنجاز والإثمار، وبه تتطور حياة البشر وترتقي. ولكن، كل ما سبق يحتاج إلى تقدير وتمكين وتحفيز ليعلم الجميع أن هذا هو النمط الذي يجب أن يسود وأن ما دونه ليس مقبولًا.

ولا يمكن أن نبعث الأمل في نفوس المصريين بدون تمكين أصحاب الكفاءات والهمم وبدون حمايتهم من التهميش والتنكيل بهم أحياناً، وبدون تقييمهم بأسلوب يتسم بالحياد ويبتعد عن الانحياز، وبدون فتح المجال أمامهم لإطلاق قدراتهم ًوإبداعاتهم في مكان العمل.

هذا الأمر يقودنا إلى لُب القضية، وهو كيف يتم تقييم الأفراد لاستكشاف النجباء فيهم؟ ومما لا شك فيه أن ليس جميع أفراد المجتمع يخضعون لهذه التقييمات بشكل ممنهج ومنتظم، وقد يقوم أفراد المجتمع بهذه المهمة، بعضهم تجاه بعض، بأساليب تلقائية. وإنما نركز هنا على تقييم من سيتم إسناد مسئوليات لهم ذات صلة بصناعة القرار أو الاضطلاع بمسئوليات ترتبط بإدارة المال العام وموارد الدولة بشكل عام.

وفي هذا الصدد- وبأسلوب بسيط- يمكن إضافة إلى جانب المعايير الأربعة التي أكد وشدد عليها السيد رئيس الجمهورية: الكفاءة والجدارة والإتقان والإخلاص، بعض المؤشرات التي تساعد على التعرف واكتشاف هؤلاء النجباء، ومنها القدرة على التخطيط العلمي، وتحقيق النتائج التي تهدف إلى فهم وإدراك وحل المشكلات، والقدرة على العمل في بيئة متغيرة والاستجابة لمتطلباتها، والتعاون مع فريق العمل وتقديم الدعم والمساندة له، وامتداح أدائه المتطور، والشفافية والإفصاح عن البيانات والقرارات التي تؤثر في حياة المواطنين وريادة الدولة وتحقيق التنمية بشكل عام.

إن اختيار المسئولين والقيادات وصانعي القرار بناء على الخصائص الأربع السابقة، وتقييم الاختيارات بناء على المؤشرات السابقة، قد يكون كفيلاً بأن ننتقل من الحلم إلى الواقع، وبأن نبعث الأمل في نفوس المصريين بأن أصحاب الكفاءات سيكونون مطمئنين وآمنين لإمكانية أن ينالوا المكانة المستحقة واللائقة بهم.

وهذا الأمر لا يبدأ من مجرد تقييم الكبار، وإنما ترسيخ قيم الكفاءة والجدارة والإتقان والإخلاص منذ الصغر، فمن الأهمية أن يتعلم ويعي الأطفال أنه لا مكان لكسول أو متراخٍ أو مهمل في صناعة مستقبل مصر. وأدعو المحافظين، كُلُّ في محافظته، إلى إبراز المجتهدين والمخلصين صغاراً وكباراً، وتمكينهم، ونشر صورهم في الشوارع والميادين ليكونوا مثالاً يُحتذى به أمام الأجيال.

إعلان