لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

متى تلتفت وزارة الثقافة إلى "الصناعات الإبداعية"؟

د. عمار علي حسن

متى تلتفت وزارة الثقافة إلى "الصناعات الإبداعية"؟

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 31 يناير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

مع الدورة الحالية لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، تسنح الفرصة كي نجدد الحديث عن إهمال "الصناعات الإبداعية" في حياتنا الثقافية، الأمر الذي يجعلنا نخسر الكثير، سواء من الأموال التي ستدرها تلك الصناعات، وهي وفيرة، أم من الدور الذي يمكن أن تلعبه في التماسك الاجتماعي، وهو قيمة نحن في أشد الحاجة إليها الآن.

وتنبع فكرة الصناعات الإبداعية من تقارب نظري وعملي بين الفنون الإبداعية بوصفها نتاج الموهبة الفردية، والصناعات الثقافية باعتبارها منتجًا جمعيًا أو جماهيريًا. ويتم هذا التقارب في ظل تقنيات إعلامية جديدة داخل اقتصاد معرفي، ينتج سلعة مختلفة، أو "بضائع رمزية" عبارة عن أفكار وصور وتجارب يستهلكها مواطنون متفاعلون بدرجات متفاوتة مع هذا المنتج.

فالمعرفة والأفكار تقود عملية تكوين الثروة والتحديث، حيث تشكل العولمة والتقنيات الجديدة قوام الحياة والخبرة اليومية، في ظل الاعتقاد الجازم بأن الإبداع هو الذي سيقود التغير الاجتماعي والاقتصادي خلال القرن الحالي، وأن الصناعات الإبداعية ستكون عنصراً مهماً في تكوين الاقتصادات المتقدمة، وستنشأ طبقة اقتصادية جديدة أفرادها ليسوا من أصحاب الياقات البيضاء ولا الزرقاء، مثلما الحال بالنسبة لطبقتي العمال والموظفين اللتين تقدمان الخدمات في الاقتصاد التقليدي، ولن تكون لهم ساعات عمل محددة، ولا يمكن إجبارهم على العمل، وإن كانوا لا ينقطعون عن العمل أبداً، وستنتقل هذه الطبقة من الهامش إلى قلب التيار الاقتصادي السائد، وستسقط الطرق الهرمية التقليدية للتوجيه، التي تعتمد عليها الإدارة في الوقت الحالي، لتحل محلها أشكال من الإدارة الذاتية، أو التوجيه الناعم، والذي يصاحبه إقرار المساواة والعمل السريع الناجز، وطرق حقيقية من التحفيز.

وبذا تحتاج الصناعات الإبداعية إلى ابتكار ومغامرة وقدرة فائقة على إطلاق مشروعات مختلفة وجديدة، وأصول غير ملموسة، وتطبيقات خلاقة للتقنيات الجديدة"، ويتم هذا في إطار مؤسسي قد يكون "مدنًا إبداعية" أو "مناطق إبداعية".

ويمكن لهذه المشروعات أن تذهب في طريق تحقيق عوائد اقتصادية جمة، ويمكنها أن توظف في سبيل تحقيق غايات اجتماعية وسياسية مهمة. ففي الشق الأول مثلاً انتبهت الدول المتقدمة صناعياً في أواخر القرن العشرين إلى الأهمية الاقتصادية البحتة للصناعات الإبداعية، وما إن بدأ القرن الجديد حتى أخذت تجني ثمار انتباهها، فقد قدر صافي عائدات صناعة حقوق النشر الأمريكية بنحو 791.2 مليار دولار أمريكي عام 2001، وهو ما عادل وقتها نحو 8% من إجمالي الناتج القومي، ويعمل بها 8 ملايين عامل، ويبلغ إسهامها في الصادرات الأجنبية نحو 89 مليار دولار، وهو ما يفوق إسهام الصناعات الكيميائية، والسيارات، والطائرات، وقطاع الزراعة، والقطع الإلكترونية، والكمبيوتر. وفي بريطانيا، قُدرت عوائد الصناعات الإبداعية في العام نفسه بنحو 122.5 مليار إسترليني، ويعمل بها 1.3 مليون شخص، وتسهم بـ10.3 مليار جنيه من الصادرات، وتشكل 5% من الناتج القومي الإجمالي.

أما بالنسبة للشق الثاني، فإن المستثمرين الثقافيين بوسعهم أن يلعبوا دوراً حاسماً في تعزيز التماسك الاجتماعي، وتقوية الشعور بالانتماء. فالفن والثقافة والرياضة بوسعها جميعًا أن توفر ملتقيات راسخة وفسيحة لأشخاص يعيشون في مجتمع يزداد تبايناً وانقساماً وتفاوتاً مزرياً، وكانت تلك الملتقيات يوفرها فيما مضى العمل، أو الدين، أو النقابات. وليس معنى هذا أن تلك المسارات الثقافية تشكل بديلاً للملتقيات التقليدية تلك إنما يمكن أن تعمل إلى جانبها وتعزز دورها، وتخدم معها عملية تعميق الانتماء للدولة الوطنية والقيم والرموز الاجتماعية السائدة، والتي تعمل على صهر الجماعة الوطنية في بوتقة مكينة ومتينة.

من هنا، فإن صناع السياسة يجب أن يمتلكوا القدرة على تخيل ما للصناعات الإبداعية من دور في تعزيز السياق الذي يغذي المدنية والديمقراطية والدولة الوطنية، أو يستعينوا بمن لديهم هذه القدرة على التخيل، بحثاً عن مسارات وشبكات وأدوات جديدة، تساعد الدولة على أداء وظائفها، وتعطي النظام السياسي قدرة فائقة على تبرير وجوده واستمراره.

ليس معنى هذا أن تستخدم الصناعات الإبداعية كجزء من عملية تدجين وتنميط للمجتمع، وتكون أشبه بحالات التثقيف التي تقوم عليها النظم الشمولية والمستبدة والمؤدلجة، إنما يتم الحوار مع القائمين على هذه الصناعات بحيث تعمل في الاتجاه الإيجابي، ليس فقط فيما تدره من عائد اقتصادي، إنما فيما توجده من قيم وتصورات تعمل في اتجاه الخيرية والتماسك والتنوير وتحسين شروط المعيشة بما يؤدي إلى التقدم في الحياة، فهل تدرك وزارة الثقافة هذا؟ وإن كانت تدرك فمتى نرى تطبيق إدراكها في واقعنا.

إعلان