لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

هدايا الأهرام

هدايا الأهرام

د. جمال عبد الجواد
09:39 م الجمعة 04 أغسطس 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

د. جمال عبد الجواد

بعد سبع سنوات من ثورة يناير مازالت أروقة القضاء تتداول قضايا أثارها سقوط نظام مبارك، وما تلاه من قيام ثلاثة أنظمة متعاقبة، للمجلس العسكري والإخوان وعبد الفتاح السيسي. القضية المعروفة بهدايا الأهرام هي واحدة من هذه القضايا، وملخص القضية هو أن مؤسسة الأهرام الصحفية العريقة، قامت من خلال أربعة رؤساء متعاقبين لمجلس الإدارة بتقديم هدايا لمسئولين في الدولة. بلغت قيمة الهدايا 268 مليون جنيه، وموزعة على فترة تصل إلى خمسة وعشرين عاما، كان أغلبها تحت قيادة إبراهيم نافع الذي بقي في منصب رئيس مجلس إدارة الأهرام طوال الواحد وعشرين عاما الممتدة بين عامي 1984 و2005.

قرار الاتهام الصادر بحق رؤساء مجالس إدارة الأهرام الأربعة يتهمهم بتبديد أموال عامة، والمقصود هنا هو أن أموال عامة قد تم إنفاقها بطريقة غير مفيدة، وهو نفس الاتهام الذي يتم توجيهه للمسئول عندما يتخذ قرارا بشراء سلعة غير مطابقة للمواصفات، أو عندما يحل موعد انتهاء صلاحية منتجات قبل استخدامها أو بيعها، فالأمر يتعلق بسوء التقدير والتصرف، وليس بالفساد أو التربح.

إهدار المال العام هي نفس التهمة الصادر بسببها حكما بالسجن ضد الدكتور إسماعيل سراج الدين المدير السابق لمكتبة الإسكندرية، بسبب قرارات اتخذها وفقا لتقديره للصالح العام، فيما كان للمحكمة تقدير آخر للأمور. فقرارات الدكتور سراج الدين، بالضبط مثل قرارات رؤساء الأهرام، لا تنطوي على فسادا، وإن انطوت على تقدير يختلف عما ذهب إليه القضاء والنيابة.

تكييف الاتهام بهذه الطريقة يحول هدايا الأهرام إلى قضية ذات طرف واحد، هو المسئول الأهرامي الذي قام بتوزيع الهدايا، أما مسئولي الدولة الذين تلقوا هذه الهدايا، بدءا بالرئيس الأسبق مبارك، فقد أعفاهم هذا التكييف من أي مسئولية. تكييف القضية بهذه الطريقة يصور الأمر كما لو أن ما حدث كان يمكن تجنبه بمجرد امتناع المسئولين الأهراميين عن تقديم هذه الهدايا، بحيث بدا الأمر كما لو أن تقديم الهدايا الأهرامية كان تصرفا معدوم المنطق بشكل كامل، وكأن مؤسسة الأهرام، ذات الأعمال المتشعبة وحجم الأعمال الهائل، كان يمكنها مواصلة عملها بلا أي مضايقات أو ضرر، في ظل نظام سياسي قام على مبدأ تبادل المنافع بين أصحاب المال وأصحاب السلطة، وهو النظام الذي فرضه أهل السلطة على المجتمع كله منذ عدة عقود.

تكييف القضية بهذه الطريقة يحول الضحايا إلى جلادين، فيما يتجاهل المجرم الحقيقي بشكل كامل. فالقيادي الأهرامي الذي وجد نفسه مسئولا عن مصالح مؤسسة كبيرة، ومصالح عشرة آلاف من العاملين بها، لم يكن في وارد التمرد على نظام تبادل المنافع الفاسد الذي ساد البلاد، وإنما كان عليه أن يفعل كل ما في وسعه لتجنب الإضرار بمصالح المؤسسة والعاملين فيها، حتى لو اقتضى الامر تقديم الهدايا لمسئولين في الدولة قبلوا هذه الهدايا، بل وجعلها بعضهم شرطا لتسهيل عمل الأهرام، أو لعدم التضييق على أعمال المؤسسة ومصالحها.

تكييف القضية بهذه الطريقة يساوي بين المسئولين الأهراميين في حجم المسئولية التي يجب على كل منهم تحملها، بحيث يتساوى من ظل في موقع المسئولية طوال عشرين عاما، بالمسئولين الثلاثة الآخرين الذين فيما بينهم لم يخدموا في موقع المسئولية بأكثر من خمسة أو ستة أعوام. الفارق بين المسئولين الأربعة ليس فقط فارقا في طول المدة، وإنما أيضا في الترتيب، فمن تولى المسئولية أولا، وكانت لديه الفرصة لصياغة تقاليد وقواعد العلاقة بين الأهرام والمسئولين في الدولة، يختلف كثيرا عمن أتى لاحقا، فلم يكن أمامه سوى العمل وفقا للتقاليد التي وضعها من سبقوه.

قضية هدايا الأهرام هي حالة نموذجية للفارقات التي يمكن أن تحدث عندما يجري تفسير القانون بطريقة شكلية لا تأخذ ظروف المجتمع والسياسة بعين الاعتبار، وخاصة في فترات الانتقال السياسي التي مررنا ومازلنا نمر بها.

إعلان

إعلان

إعلان