لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

سامي السلاموني الذي مات بالنيابة عني

سامي السلاموني الذي مات بالنيابة عني

ياسر الزيات
09:00 م الأربعاء 11 أكتوبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

رنَّ جرس التليفون الداخلي الذي كان يربط مجلة الإذاعة والتليفزيون بمبنى ماسبيرو. كانت الثانية عشرة ظهر يوم خميس، وهو اليوم الذي لا يحضر فيه إلى المجلة، غالبًا، سوى رئيس التحرير وعمال الخدمات المعاونة وأنا. رفعت السماعة، متوقعًا أن يكون المتحدث هو مكتب الصحافة، الذي لا أعرف مكانه ولا أعضاءه، ولا لأية جهة يتبع، لكنني أعرف أنه يتصل من وقت لآخر ليخبرنا بحظر نشر أخبار عن حدث ما. يقول المتحدث، الذي سميته “رقم صفر”، مثلا: “ممنوع نشر كذا كذا كذا”، وكانت هذه وسيلة جيدة لمعرفة أن شيئًا ما حدث، وأن جهة ما لا ترغب في النشر. يتحدث رقم صفر عادة بلغة رسمية صارمة، وصوت معدني بلا مشاعر، لكن الصوت جاءني هذه المرة حزينًا، يوشك على البكاء: “البقية في حياتكم. سامي السلاموني الله يرحمه”.

يا الله!

كان هنا منذ يومين، جالسًا أعلى مكتبي، يشاكس خيري شلبي كعادة الاثنين كلما اجتمعا، وكان يمازحني كأنني ابنه كالعادة، هو الذي لم يتزوج ولم يجرب فكرة الأبوة. في الفترة الأخيرة من حياته تردد على الأطباء كثيرًا، فأخبروه بأن قلبه متعب، وأن عليه أن يستريح، ويقلع عن التدخين. كان يتوجه نحوي بمجرد دخوله الغرفة، ويطلب مني سيجارة، فأرفض مؤكدًا عليه بألا يدخن حسب تعليمات الأطباء، لكنه كان يرد: “لو ما أخدتش منك سيجارة، هاضطر أطلب من ولاد الـ….ذين دول. يرضيك إني أطلب منهم؟”، وكان هذا الحوار يتكرر بشكل دائم بيننا، وينتهي برضوخي لطلبه مع التأكيد على أنها سيجارة واحدة. وفي الأيام الأخيرة، اشترى سامي السلاموني سيارة، رغم أنه لا يجيد القيادة، ولو سألته عن سبب شرائها، ستعرف أنه اشتراها ليغيظ خيري شلبي.

لم يكن بإمكاني في ذلك العمر أن أفهم تلك العلاقة المعقدة بين الاثنين، لكنني لم أجد لها وصفًا أكثر دقة من تعبير “مولودين فوق روس بعض”. ويمكنك أن تصفهما بأنهما “توم” و”جيري”، فكلاهما لا يكفّ عن مناكفة الآخر، ويفتقده في غيابه، ويتفقد أحواله، حتى إذا جاء الآخر ارتدى قناع الجدية، مكشّرًا ومتحفزًا لجولة جديدة من المشاكسة. وظني أن كليهما كان يعرف قدر الآخر، لكنه لا يريد أن يمنحه اعترافًا معلنًا بذلك. وربما تمنى أحدهما أو كلاهما أن يكون محل الآخر. وكانت تلك العلاقة المعقدة مصدرًا للإثارة والبهجة في الغرفة، لا بل في المجلة كلها. 

قبل يومين أو ثلاثة من رنين جرس التليفون الحزين، كان سامي السلاموني يجلس أعلى مكتبي كعادته، عندما نتفاوض على منحه سيجارة. في تلك المرة، كنت مجهدًا. والحق أنني كنت قد نجوت من محاولة انتحار، وأتعافى من آثارها. لم يطلب سيجارة، لكنه سألني مباشرة: “مالك ياد؟”. أجبت: “أبدًا يا عم سامي، أكلت هامبورجر بايظ وجالي تسمم”. قال: “لا، مش صحيح. إنت عايز تموت. لسة بدري عليك إنت. سيب لنا إحنا الموضوع ده”، وضحك. كانت ضحكته آخر ما سمعته منه، فقد خرج بدون أن يأخذ سيجارة، خرج من الغرفة، وخرج من الحياة.

إلى الآن، لدي اعتقاد بأن سامي السلاموني مات بالنيابة عني.

إعلان