إعلان

داليا وحيد تكتب: فاصوليا بيضاء

داليا وحيد عبد الرحمن

داليا وحيد تكتب: فاصوليا بيضاء

01:03 م الإثنين 05 أكتوبر 2015

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم- داليا وحيد عبد الرحمن:

"دا لسه صغير مش فاهم حاجه".. الجملة المقترنة عادة بوصف تلك الملائكة أو كما يقال -الشياطين الصغيرة- منتشين حين يُقْبِل الطفل -الذي بالكاد يخطو أولى خطواته- بصفع عمو قلم على وجهه، ويبدأ التلفظ بكلمات غليظة أو وابل من الشتائم قد تشمل الأب والأم والأجداد والأسلاف الأحياء منهم والأموات، أو طفلة لم تتجاوز الثلاث سنوات بتصرفات ودهاء فتاة تجاوزت العشرين من عمرها... يطير بها من حولها انتشاءً واعتقاداً أنها لباقة، هذه ليست إلا كارثة تدمر المراحل الطبيعية التي يجب على الإنسان ليكون سوياً... 

فما الذي يثير الإعجاب في ذلك...! وإذا كان الطفل أو الطفلة يعلم أنه يتلفظ بشتائم ويضرب أحداً ليبدي استيائه أو لايكف عن الصراخ إلا اذا لُبِّيت حاجته، أو أنها "بتحور وبتكذب"، إذاً فمعنى ذلك أن الأطفال على قدر كافٍ من الإدراك والفهم، دعوني أصطحبكم 16 سنه إلى الوراء شيئاً يثبت أن العمود الأساسي في بناء المرء هي مرحلة الطفولة...

كنت أول طفلة في العائلة مدللة من الجميع حتى الثالثة من عمري، كل طلباتي مجابة، وتلبية رغباتي واجبة، حتى جاء اليوم الذي انتقلت فيه مع والداي إلى دولة أجنبية، تغير كل شيء ما عدا طباعي بالتأكيد، وعانت والدتي كثيراً لتقوِّم دلعي الزائد...

من أكثر المواقف التي أثرت في وصاحبتني إلى عمري هذا... كنت لا ضد الأكل، لا أشتهي شيئاً سوى وجبة معينة يضطر والدي قطع مسافة لا بأس بها حتى يحضرها لي حين تسوء حالتي من عدم الأكل حتى ادخل شيئاً لجسدي الصغير...

حاولت والدتي مراراً إغرائي بشتى الأصناف، بلا جدوى حتى قررت إعادة برمجتي، فجائتني يوماً بعد أن انتهت من إعداد الطعام وقالت لي "تعالي كلي مع ماما" اصطحبتني وأجلستني ووضعت الصحن أمامي وجلست بجواري، كان المحتوى فاصوليا بيضاء وأرز، غضبت وامتعضت ورفضت الأكل، بالتأكيد كنت وقتها واثقة كأي طفل في موقفي بأنها وسيلة الضغط التي ستلبي رغباتي، ولكن هذه المره كل شيء اختلف، فتحت والدتي التلفاز كانت القنوات العربية وقتها محدودة معظمها تنقل الأخبار، كنا بالكاد نسمع اللغة العربية، في قناة تعرض مجاعات الصومال، أجلستني قالت لي "شاهدي...".

لا أذكر المشهد بوضوع ولكنهم كانوا أطفال مثلي وليسوا بمثلي خليط من الأحاسيس أحتلجتني، أنا أمامي صحن الفاصوليا وهم يلتقطون أشيائاً لا ملامح لها من التراب ويضعونها في أفواههم التي يرهقهم فتحها، يأتيني صوت أمي "شايفه كيف فيه أطفال ماهي لاقية تاكل وأنتِ الحمد لله عندك أنواع أكل كتير وماما وبابا بيجيبوا لك كل اللي نفسك فيه، ناكل أي حاجه ونقول الحمد لله صح حبيبتي..! " وبالفعل بدأت تطعمني وتأكل معي وهي تنبهني بحنان "شوفي كيف طعمها لذيذ.. شاطره حبيبتي" وبالفعل بدأت أتقبل الأكل وأصناف كثيرة كنت ممتنعة عن تناولها ربما ليس لأنها صارت تعجبني ولكن ذلك المشهد غير الكثير في ذهني الصغير ولا أقول أنني صرت كالإنسان الآلي على نفس الوتيرة طوال الخط ولكن شيئاً ما حفر بداخلي، من وقت لآخر يأتي ليذكرني رغم أنه الأبعد زمناً عني...

أطفالنا هم رواد المستقبل ما نزرعه فيهم الآن سيكون حصادنا غداً، كما قيل أن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، نجد الطفل الذي اعتاد أن يُهان أو يُضرب أمام الناس سيصبح جباناً شخصيته مهزوزة ويحاول أن يداريها بظاهر عنيف أو عدواني، والطفلة التي لم تعش طفولتها ستعيش عمرها تائهة تبحث عن هويتها، والطفل الذي اعتاد على التدلل الزائد سيكون شخص أناني وغير مسؤول، لا يهتم إلا بنفسه ورغباته والطوفان من بعده، إن الذبذبات النفسية والخلل الاجتماعي الذي يزداد بشكل مخيف أساسه تربية غير سليمة وطفولة غير سوية...

للتواصل مع كاتب المقال: Facebook.com/dalya.abdelrahman

 

إعلان

إعلان

إعلان