لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

ازدراء الفكر

ازدراء الفكر

02:55 م الأربعاء 20 فبراير 2013

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم – حسام نصار:
هالني ما تواتر إلىّ من أنباء عن إحالة يوسف زيدان إلى التحقيق بتهمة ازدراء الأديان، لا لأني لم أتوقعه من حكم جماعة محكومة في الأساس بفكر تفتيشي مُراقب ومُصادر، ولا لأنه ليس له قرينة في فترة حكمها القصير والأقصر بإذن الله، ولكن لسرعة تحققه مع قامة فكرية مرموقة، اختلفت معها أو اتفقت في العديد من مواقفها أم لا، ولكنها تظلّ في النهاية إحدى علامات الفكر في مصر، وهذا يعني أن النظام يتعجّل الصدام مع الفكر والرأي متفوقاً على النظام الذي سبقه حين وصم نفسه بمحاكمة نصر حامد أبوزيد بمحض إرادته واستسلامه – ربما لترويج فكرة الفزّاعة الدينية إلى الداخل والخارج – فاستسلم لمزايدات عناصر النظام الحالي النائمة أو المتخفّية أو المتعاطفة، وأدخل الفكر إلى ساحات القضاء بتهم الحسبة والازدراء وحاكمه، فكان سقوطه في النهاية على أيدي من استسلم لهم.

وفي الحقيقة أنني لم أتفهّم أبداً في حياتي معنى ازدراء الأديان، فكيف يُزدرى دينٌ من الأساس على يد مخلوقِ لخالق هو أعلم به وبخلقه وبما أسرّ وأعلن، ولو شاء لَما خلقه ليزدري دينه إن كان هناك ثمة ازدراء أو حتى معنىً له. ولا أفهم في الحقيقة أيضاً كيف يُخضع إنسانٌ إنساناً آخر لمحاكمة فكرية على شيء لا يملكه أيهما، وهو إذن بهذا يحاكم فهماً أمام فهمه، وفكراً أمام فكره، واجتهاداً أمام اجتهاده، وهو خطيئةٌ كبرى، ولولا وقوعي في ذات الخطيئة لاتهمت هذا المُحاكم بالشرك بالله حيث وضع ذاته الضئيلة أمام ذات الله سبحانه وتعالى بل ومحلّها، فتوجيه تهمة الازدراء على هذا الأساس ليست في الحقيقة إلا ازدراءٌ مماثل، لا للدين فقط، وإنما لله تعالى سبحانه عن كل ازدراء.

لا يفهم الكثيرون من المتشنجين هذا، ولا يفهمون أيضاً أنه لولا الجاهلية لَما كان الإسلام، فلم تكن الجاهلية محض شرٍّ مطلق كما يريد أن يصوّرها البعض، فلولا تعدد الآلهة لما وجد فيها البعضُ ضعف الحجة والحيلة التي جعلتهم يستدلّون على وحدة الألوهية قبل الرسالة، وجاهلية ما قبل الإسلام ليست الوحيدة في هذا، فكلّ المجتمعات التي استدلّت على وحدة الخلق والألوهية كانت لها جاهليتها الأولى، وكان هذا هو الحال تقريباً في كل المجتمعات الحضرية التي كان لها سبق الحضارة والمدنية، سواء دعمت تلك الاستدلالات رسالةٌ بعدها أم لا، أو جاء مجتمعاتها نبيٌ أم لا، وقد حدث هذا في كل تلك المجتمعات تقريباً وبلا استثناء، في بابل إبراهيم عليه السلام وفي مصر أخناتون، وفي بوذا الهند والصين كما في يونان سقراط، ولولا تلك الجاهلية والتعددية اللاهوتية لما ظهرت بشارات ورسالات التوحيد، لقد كانت الجاهلية فكراً آل إلى فكرٍ إذن كطبيعة أي فكرٍ يتوالد من فكر، ولولا هذا الفكر لما اهتدت تلك العبقريات إلى التوحيد قبل أي وحي أو أي استنباط منطقي، ألم يكن نبيُنا عليه الصلاة والسلام من الحنفاء الموحّدين كما عُرِف عنه قبل تلقيه الرسالة والوحي؟، ألم يحاول الاهتداء بعقله وفكره إلى الله فهداه الله إليه؟، ألم يجده ربّه ضالاً فهَدى؟.

لسنا إذن بصدد ازدراء دين، وإنما نحن بصدد ازدراء فكر، وأمام عملية إقصاء فكرية ممنهجة من قبل ثورة يناير وبعدها، تريد أن تعود بنا إلى محاكمات طه حسين على كتابه '' في الشعر الجاهلي'' وإلى محاكمات الشيخ على عبد الرازق على كتابه '' الإسلام وأصول الحكم'' قبل حوالي قرن من الزمان، إنها كلها محاولات استدراج لإعادة فتح ملفات قديمة وحديثة على ذات الشاكلة، الهدف منها إسباغ شرعية على جماعة لم تكن بعد موجودة وقت هذه المحاكمات الشهيرة، وهي تريد الإعلان عن وجودها منذ لحظة وجودها لا منذ لحظة وصولها إلى الحكم، مستغلّةً وجود مناخ مغاير لما كان عليه الحال في حقب التنوير المصرية، لتجهز على مشروع مصر الحداثي برُمّته وكأنه لم يكن، إنها تريد استدراج مجتمع غلب عليه الجهل وطغت عليه الغوغائية، وتركه نظام بائد فريسة وحشية فكرٍ أممي لتستدرجه إلى الخلف حيث بدأت تتشكّل القومية المصرية مدفوعة بالحركة الوطنية التي أجّجتها ثورة 19 في الروح المصرية مجدداً لتزيح فكراً أممياً كان ولا يزال يجد في الخلافة ملاذاً له ولفكره الاسترجاعي الاستعدادي، فكره الذي يريد أن يصوّر حقب التنوير الليبرالية الملكية والناصرية على حدّ سواء على أنها جاهلية لابدّ وأن تُحاكم، إننا أيها السيدات والسادة أمام مشروع ازدراء فكر ووطن وهويّة، وللحديث بقية.

إعلان