كيف يساعدنا الفن والثقافة على إعادة التفكير في المستقبل؟
لندن (بي بي سي)
نحن نعيش في عالم اختلت فيه نظرتنا للزمن، إذ أصبح البشر يقدمون المكاسب الآنية على الأهداف طويلة الأجل التي ستضمن للبشرية مستقبلا طويلا وزاهرا. وقد نعمد إلى التركيز على الحاضر بينما نغض الطرف عن المشاكل التي ستلازمنا لقرون، من تغير المناخ إلى التدهور البيئي.
ولم يكن البشر في الماضي يحتاجون للتخطيط طويل المدى، حين كان همّهم الأكبر هو الهروب من المخاطر الوشيكة مثل الحيوانات المفترسة أو البحث عن الطعام في الغابة أو التصدي للظروف الجوية المتطرفة. لكن اليوم، تغيرت طبيعة المخاطر التي نواجهها، ولم تعد العلاقة بين السبب والأثر واضحة، وتحدث التهديدات الكبرى للبشرية في غضون عقود أو قرون.
ربما لا تكون أدمغتنا مهيأة للتعامل مع المخاطر طويلة الأجل وتحديد الأولويات العامة، لكننا لدينا استعداد فطري للتأثر بشيئين، هما القصص والعواطف. وهذا يزيد من أهمية دور الفن والثقافة في حماية البشرية من الفناء.
ولهذا رأينا أن ندشن مشروع "لونغ تايم"، وهي مبادرة تدعو إلى استخدام الفن والثقافة كوسيلة لمساعدة الناس على التفكير في الأهداف طويلة الأجل. وهذا يشمل مقاطع الفيديو على موقع يوتيوب والإعلانات والمسلسلات والمعارض الفنية والمسرحيات وحتى الملابس والأثاث. وكل هذه الفنون والأعمال الإبداعية تشكلها الثقافة ،أي القيم المشتركة والمعايير والقصص التي تحرك المجتمع وتدعمه.
وقد يساعدنا الفن على إطالة الأطر الزمنية، لنحدد موقعنا في التاريخ الجيولوجي للكون بحسب الدهور والحقب وليس الأسابيع والشهور، إذ ترى عالمة الجيولوجيا مارسيا جورنرود أن الناس سيتعاملون مع بعضهم البعض بطريقة أفضل إذا نظروا إلى الماضي المشترك الذي يربطهم معا، وقدرهم المشترك كورثة للأرض.
وظهرت أعمال فنية عديدة تتناول الزمن من هذا المنطلق، مثل كتاب المصورة الفوتوغرافية ريتشيل سوسمان، "أقدم الكائنات الحية في العالم"، الذي يحوي صورا لكائنات يصل عمرها إلى 2,000 عام، مثل غابة الباندو، وهي مستعمرة من أشجار الحور الرجراج التي ظلت تستنسخ نفسها على مدى 80,000 سنة.
وتقول سوسمان: "كنت أحاول تغيير نظرتنا للزمن. وفي أثناء إعداد الكتاب أصبحت على قناعة بأن كل مشكلة، شخصية كانت أو اجتماعية أو غيرها، يمكن حلها بالتفكير بعيد المدى. إنها فكرة بسيطة، لكنها تشجعك على التمهل والتفكير في العواقب طويلة الأجل قبل أن تتصرف".
وابتكرت هونور هارغار، خبيرة تكنولوجية وفنانة، عملا فنيا تتبعت فيه أصوات الموجات اللاسلكية المنبعثة من الأجرام السماوية القديمة وحولتها إلى أصوات، منها أصوات الأشعة الكونية التي خلفها الانفجار العظيم وأطلقت عليها اسم "أقدم أغنية على الاطلاق".
واشترك أحد العلماء مع كاتب مسرحي ومصمم صوت في تطوير تطبيق "السير عبر الزمن"، الذي يتيح للناس السير لمسافة 4.6 كيلومترات عبر 4.6 مليار سنة والتعرف على الأحداث الفارقة في تاريخ الكون.
وتبني مؤسسة "لونغ ناو" ساعة ضخمة تحصي 10 آلاف سنة داخل جبل في تكساس. وفي عام 2014، ابتكرت كيتي باترسون "مكتبة المستقبل"، وهي غابة في النرويج الغرض من زراعتها توفير الأوراق اللازمة لمجموعة مختارات أدبية من المقرر طباعتها بعد 100 عام. وساهمت مارغريب أرتوود في المشروع بقصتها التي لن تنشر إلا بعد 100 عام.
وقد تساعد الثقافة أيضا في توسيع نظرتنا للوقت، إذ دأب البشر على التفكير في المستقبل منذ آلاف السنين، كما يتجلى في نصوص "الفيدا" الهندوسية المقدسة، وشغف المسيحيين بنهاية العالم في العصور الوسطى، وقصص الخيال العلمي، مثل "20 ألف فرسخ تحت الماء" إلى "بليد رانر". وقد تدفعنا روايات الديستوبيا- التصوير التشاؤمي للمستقبل- إلى إعادة النظر في العوامل التي قد تقودنا إلى التهلكة.
وابتكر المصممون والفنانون مؤخرا أعمالا تتيح للناس التعرف حسيا على ملامح كوكب الأرض مستقبلا ما لم نبدأ في التحسّب للعواقب بعيدة المدى. وفي عام 2017، ابتكرت شركة "سوبرفلاكس" عينات من الهواء الملوث التي من المتوقع أن نستنشقها في عام 2030 لو استمر الوضع كما هو عليه، ودعت الشركة الساسة وصناع القرار في إحدى المعارض في الإمارات لاستنشاقه. وتقول أناب جاين، إحدى مؤسسي الشركة : "مجرد نفس واحد من هذا الهواء الملوث كان أكثر إيجازا من بيانات لا حصر لها".
ودشنت "سوبرفلاكس" مشروع "تخفيف الصدمة" في برشلونة، الذي أتاح للناس إلقاء نظرة على شقة في المستقبل معدة لحماية ساكنيها من مخاطر العيش في بيئة ما بعد الكارثة البيئية. وتقول جاين: "صممنا شقة في المستقبل الذي لا يريده أحد، لنساعد الناس على إمعان النظر في سلوكياتهم في الوقت الحاضر".
وقدمت بعض الأعمال الفنية في المقابل صورة مضيئة للمستقبل، مثل فيلم "النمر الأسود"، الذي تناول حضارة أفريقية متطورة تكنولوجيا وصديقة للبيئة لم تطأها قدم مستعمر. ويتيح لنا الفيلم استكشاف المستقبل الذي تختفي فيه أشكال التمييز التي نراها اليوم. وهذا النوع من الأعمال الفنية قادر بلا ريب على التأثير على مسار تفكيرنا.
ويعرض مشروع "غابة المستقبل" في مقاطعة والتام فوريست بلندن، فنونا استشرافية لمستقبل المقاطعة، مثل أعمال فنية وقوانين محلية لمساعدة صناع القرار والساسة والمواطنين والناخبين والشركات على التفكير في مستقبل مشرق وكيفية تحقيقه.
وأقام أولافو إلياسون عرض "أيس ووتش" مؤخرا، حيث نقل كتلا جليدية ذائبة من القارة القطبية الجنوبية إلى لندن ليراها الناس ويلمسونها. ويقول إلياسون: "أرى أن الفنان يحمل على عاتقه مسؤولية مساعدة الناس على التعرف على الأشياء وفهمها، لا فكريا فقط، بل أيضا عاطفيا وبدنيا".
وقد تساعدنا الثقافة والفنون في تجربة بُعد النظر ورحابة الفكر، وتتيح لنا مساحة للتفكير في القرارات السليمة بعد دراسة العواقب طويلة الأجل.
واحتفالا بيوم الأرض، لخص "سومرسيت هاوس" هذه الفكرة بالتركيز على دور اللغة وسرد القصص في تعزيز المبادرات الجماعية بشأن أزمة المناخ العالمية. وساهمت المعارض والعروض السينمائية وورش العمل وحلقات النقاش التي نظمها، في حث الناس على الاستكشاف والتأمل.
وطور زوي سفيندسن، مشروع "لا نعرف كيف سيكون مصير البشرية" في لندن. وبعد الاستماع لمحاضرة استغرقت 20 دقيقة ألقاها خبراء في مجالات اقتصادية وجغرافية وبيئية، طُلب من الناس استكشاف الحياة في مستقبل اقتصادي بديل، بناء على تصور تخيلي مستلهم من أبحاث أحد هؤلاء الخبراء.
وعرضت شركة "كوني" للإنتاج المسرحي التفاعلي، في عام 2014 مسرحية "الأيام الأولى في حياة بلد أفضل" التي اعتمدت على مشاركة المشاهدين الذين وجه لهم سؤالان: "إذا أصبح لزاما عليك أن تبني أنت وغيرك من الناجين من الحرب دولة جديدة على أنقاض سابقة. ما هي القواعد التي ستضعونها؟ وهل يمكن أن تتفادى أخطاء الماضي؟"
وقد ينطوي الاهتمام بالأهداف طويلة الأجل على تغيير الحاضر والسير عكس التيار والتصرف بطريقة مختلفة. وقد تسهل لنا ضروب الفن والثقافة تغيير الواقع من خلال عرض اللحظات الفارقة التي غيرت مجرى التاريخ، لنشعر معها أن التغيير ليس مستحيلا أو من خلال تحدي حتمية الوضع الراهن.
وقد لا تنبهنا الفنون إلى التغييرات التي حدثت في الماضي فحسب، بل قد تذكرنا أيضا بالقيم والسلوكيات التي ساهمت في تحقيقها.
وكتب المنظّر الثقافي مارك فيشر عن دور الفن في تحدي "احتكار فرص التغيير المحتملة"، لئلا نشعر أن الواقع الذي نعيشه هو الخيار الوحيد.
وقد جسدت هذه الأفكار أعمالا فنية جديدة، مثل كتاب "الخيال العملي الاقتصادي" الذي يستكشف إمكانية توظيف الخيال العلمي لرسم مستقبل اقتصادي مختلف، وكتاب "مستقبل شعب الولايات المتحدة" الذي يضم مجموعة من القصص التي تتحدى القمع وتضع تصورات بديلة لمستقبل للولايات المتحدة.
وفي النهاية نرى أن التمرد على ضيق الأفق سيساعدنا على تغيير بعض المعتقدات المشتركة التي تحدد مسار حياتنا. إذ تسهم المعتقدات والقيم السائدة في المجتمع في تسويغ الوضع الراهن وتضفي شرعية على بعض الحلول وتجعلنا نشعر أن كل شيء في حياتنا مقدر سلفا. فضلا عن أنها تكرس الأنظمة التي تغذي قصر النظر وضيق الأفق، سواء على المستوى الفردي أو السياسي أو التجاري أو المالي.
وتعد الثقافة الركيزة الأساسية للمجتمعات، فهي التربة التي تنمو منها الحضارات. وإذا أردنا أن نضمن للبشر مستقبلا مزدهرا وطويلا على ظهر الكوكب، قد يجدر بنا أن نهتم بالثقافة قدر اهتمامنا بالسياسة والعلوم والتكنولوجيا والاقتصاد، ونوظف الفن والثقافة في توسيع نظرتنا للزمن والاهتمام بالأهداف طويلة الأجل.
فيديو قد يعجبك: