لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

مدن تستدعي تحذيرا طبيا قبل زيارتها

01:20 م الجمعة 19 أبريل 2019

ارشيفية

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

لندن (بي بي سي)

كان من المفترض أن يعود الشاب أوليفر ماكافي إلى دياره بحلول فترة الاحتفال بأعياد الميلاد "الكريسماس" في عام 2017. لكن هذا الشاب البالغ من العمر 29 عاما والقادم من أيرلندا الشمالية، اختفى تماما عن الأنظار منذ الحادي والعشرين من نوفمبر من ذلك العام.

وقبل اختفائه، كان ماكافي يستقل دراجته على طريقٍ يُعرف بـ "مسار إسرائيل الوطني"، مارا بالقرب من مدينة متسبيه ريمون الصحراوية. وقد عُثِرَ على دراجته وخيمته بعد شهرين من اختفائه في جنوبي إسرائيل، ووُجِدَتْ متعلقاته من مفاتيح وجهاز كمبيوتر محمول وحافظة نقود، على طول المسار الذي كان يسير عليه، وسُلِمَت فيما بعد للسلطات.

وفي تلك الآونة، سارعت وسائل الإعلام إلى الحديث عن إمكانية أن يكون ماكافي قد أصيب بـ "متلازمة القدس"، وهي حالة نفسية أو بالأحرى انفصال عن الواقع، ترتبط في أغلب الأحيان بالمرور بتجارب ذات طابع ديني. ويعاني المصابون بهذه المتلازمة من "جنون الارتياب" أو "البارانويا"، إذ يرون ويسمعون أشياء ليست موجودة على الإطلاق، كما أنهم يصبحون "ممسوسين" ومصابين بـ "الهوس". ويتطور الأمر في بعض الأوقات ليختفوا تماما عن الأنظار.

وفي أواخر القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، قال أطباء في مستشفى كفار شاؤول للصحة النفسية في إسرائيل إنهم يفحصون نحو مئة سائح سنويا من المصابين بهذه المتلازمة، يحتاج قرابة 40 منهم لدخول المستشفى.

ويشكل المسيحيون غالبية هؤلاء الأشخاص، ويوجد بينهم بعض اليهود أيضا، بجانب عدد أقل من المسلمين. وكتب الأطباء الإسرائيليون في دورية بريطانية معنية بالطب النفسي أن "متلازمة القدس" هي شكل من أشكال الاضطرابات العقلية، التي تحدث في مدينة "تستحضر شعورا بما هو مقدس وتاريخي وسماوي كذلك.

ويعاني كثيرون ممن شخصت إصابتهم بهذه المتلازمة، من الأصل من اضطرابات نفسية، من قبيل الانفصام في الشخصية أو "الاضطراب الوجداني ثنائي القطب"، وهي مشكلات دفعت بهم إلى الشروع في مهمة مقدسة وهمية.

وتحدث الأطباء الإسرائيليون عن حالة سائح أمريكي مصاب بالانفصام في الشخصية، بدأ بالتدرب على رفع الأثقال في منزله، ثم شرع تدريجيا في تقمص شخصية "شمشون" التوراتية. سافر هذا الرجل إلى إسرائيل، وركز اهتمامه على تحريك كتل حجرية عملاقة من الجدار الغربي للمسجد الأقصى الذي يعرفه الإسرائيليون باسم "حائط المبكى". وقد أوقفته الشرطة وأُدْخِلَ إلى المستشفى، وعولج بالعقاقير المضادة للذهان، قبل أن يُعاد إلى وطنه برفقة والده.

لكن هناك من أصيبوا باضطرابات نفسية لدى زيارتهم القدس، دون أن يكون لهم تاريخ مع ذلك النوع من الأمراض. ورغم أن عدد هؤلاء محدود نسبيا، إذ يصل إلى 42 من أصل 470 سائحا أُدْخِلوا المستشفيات على مدار 13 عاما للعلاج من مثل هذه الاضطرابات، فإن حالاتهم كانت مأساوية ودراماتيكية بقدر ما كانت غير متوقعة.

وعادة، يصبح أولئك الأشخاص مهووسين بفكرة النظافة والطهارة فور وصولهم إلى القدس تقريبا، ما يتجلى في حرصهم على الاستحمام لعدد لا حصر له من المرات، وإلزامهم لأنفسهم بقص أظافر أصابع اليدين والقدمين. ويرتدي هؤلاء ملابس بيضاء اللون، يأخذونها غالبا من المفارش الكتانية التي تغطي أَسِرَة الفنادق التي يقيمون فيها. كما يلقون عظات ويرددون مزامير وتراتيل دينية في الشوارع، أو في أي من البقاع المقدسة في المدينة.

وتستمر هذه الاضطرابات النفسية عادة لأسبوع أو نحو ذلك. ومع أنهم عُولِجوا في بعض الأحيان بالعقاقير المُسَكِنة وجلسات العلاج النفسي، فإن علاجهم كان يتمثل في "الإبعاد الفعلي عن القدس ومواقعها المقدسة".

وفي المقال الذي نشرته الدورية الطبية البريطانية، قال الأطباء الإسرائيليون إن هؤلاء السائحين - الذين ينتمون عادة إلى أسر من غلاة المتدينيين- يعانون من عدم الانسجام ما بين الصورة المثالية الراسخة في اللاوعي لديهم عن القدس والحقيقة الماثلة أمام أعينهم لها كمدينة تجارية صاخبة وغاصة بروادها، وهو ما يؤدي لإصابتهم بتلك المتلازمة.

وقال واحد ممن كتبوا عن هذه المتلازمة إن القدس ربما تشكل "أرضا خصبة للوهم الجماعي"، في إشارة إلى قرون من النزاعات التي نشبت بين الأديان بشأنها، وما نجم عنها من "خلافات ومؤامرات". وفي واقع الأمر، لا تشكل "متلازمة القدس" محنة من نوع جديد؛ فما توصف به أعراضها يُذكّر بحالات رُصِدَتْ في العصور الوسطى كذلك.

وإذا عدنا لحالة أوليفر ماكافي، فسنجد أن احتمال إصابته بـ "متلازمة القدس"، لم يكن جديدا في ظل ما كان معروفا عنه من الأصل من أنه مسيحيٌ متدين.

وقد أشار المحققون في واقعة اختفائه إلى العثور على أسفار ممزقة من الكتاب المقدس مُثبتة بثقالات من الصخور في المكان الذي اختفى فيه، بالإضافة إلى كتابات دينية بخط يده، وإشارات خطّها تتناول انخراط السيد المسيح في الصيام في الصحراء، فضلا عما ذكره تقريرٌ بشأن العثور على ما سُمي "معبدا" أو "كنيسة"، في إشارة إلى منطقة رملية تم تسويتها وإحاطتها بدائرة من الأحجار.

وكما تزيد فرص تعرف الأطباء في القدس على أعراض المتلازمة التي تحمل اسم المدينة لأنهم يرون الكثير من المصابين بها؛ يرصد نظراؤهم في مدينة فلورنسا الإيطالية أعراضا مماثلة ولكن في سياق ظروف مختلفة. إذ يبدو أن روعة الفن والعمارة في المدينة تستحوذ على زوارها بقدر يصيبهم أحيانا بالذهان. ففي إحدى المرات، أدت زيارة فنان يبلغ من العمر 72 عاما إلى جسر بونتي فيكيو في المدينة إلى نشوء اعتقاد في ذهنه - في غضون دقائق قليلة من وصوله للمكان - مفاده بأنه يخضع للمراقبة من جانب شركات طيران دولية، وأن أجهزة تنصت زرعت في غرفته في الفندق.

حالةٌ أخرى تمثلت في سيدة في الأربعينيات من عمرها، ساورها اعتقاد بأن شخصيات مرسومة في لوحة جصية بإحدى كنائس فلورنسا تشير إليها. ونُقِلَ عن هذه السيدة القول: "بدوا لي أنهم يكتبون عني في الصحف، ويتحدثون عني كذلك في الإذاعة، ويلاحقونني في الشوارع".

وقد وصفت الطبيبة النفسية غراتزيللا ماغيريني - وهي من فلورنسا - الحالة المرضية التي أصيب بها أكثر من 100 سائح ترددوا على أحد مستشفيات المدينة بين عامي 1977 و1986. وشعر هؤلاء بخفقان في القلب وتعرق وآلام في الصدر ونوبات دوار، وحتى حالات هلوسة، فضلا عن إحساس بالتشوش والعزلة وفقدان الهوية.

وقد حاول البعض من أولئك السائحين تخريب أعمال فنية في فلورنسا. وتشير ماغيريني إلى أن ما حدث لهؤلاء الأشخاص ناتج عن أن لديهم شخصية ذات طبيعة حساسة، تتأثر بالضغوط الناجمة عن "السفر ورؤية مدينة مثل فلورنسا تطاردها أشباح الموت والعظمة". وتقول الطبيبة النفسية إن كل ذلك ربما يكون أكثر من اللازم بالنسبة لسائح ذي شخصية حساسة.

وقد أطلقت ماغيريني على تلك الحالة اسم "متلازمة ستاندال" نسبة لكاتب فرنسي، كان قد قال عقب خروجه من كنيسة "سانتا كروز" في فلورنسا خلال زيارته لها عام 1817، إنه "غُمِرَ بالمشاعر في غمار تأمله للجمال المهيب السامي"، وبوغِتَ بـ "نوبة ضارية من نوبات خفقان القلب". وأضاف حينذاك: "جف معين الحياة الذي لا ينضب بداخلي، ودخلت المكان وأنا أشعر بخوف مستمر من السقوط أرضا".

ورغم أن عدد المصابين بهذه المتلازمة لم يعد يتجاوز اثنين أو ثلاثة سنويا في الوقت الحاضر، فإن صالة "أوفيتيزي" للأعمال الفنية في فلورنسا لا تزال تشهد نصيبها من الوقائع التي يُصاب فيها الزوار بحالات مرضية طارئة. ففي الآونة الأخيرة، أصيب رجل بنوبة مرضية، وهو يُحدّق في لوحة تحمل اسم "بريمافيرا" للرسام ساندرو بوتيتشيلي، كما أُغشي على آخر بفعل رؤيته للوحة "ميدوسا" للرسام كارافاجيو.

وفي تصريحاتٍ للصحافة المحلية بُعيد إصابة زائر ثالث بأزمة قلبية أمام لوحة "مولد فينوس" لـ "بوتيتشلي" كذلك، قال مدير صالة العرض إنه على الرغم من كونه لا يقترح تشخيصا ما لهذه الحالات فإنه يرى أن "مواجهة متحف مثل متحفنا، يغص على أخره بأروع التحف الفنية، تشكل بالقطع مصدرا محتملا للضغوط العاطفية والنفسية وحتى الجسدية" التي يتعرض لها الزوار.

وعلى النقيض من ذلك، تخيب مدنٌ في بعض الأحيان توقعات زوارها، وهو ما ينطبق على باريس التي توجد متلازمة تحمل اسمها تصف اضطرابات نفسية يصاب بها سائحون يابانيون؛ يرون أن العاصمة الفرنسية لا ترقى إلى مستوى توقعاتهم.

ويزيد عدد المصابين بهذه المتلازمة على 63 شخصا، سُحِقَت مشاعرهم على ما يبدو بعدما رأوا أن باريس ليست مدينة أحلامهم. إذ تملكت هؤلاء مشاعر الحزن والتوتر بفعل رؤيتهم لوجوه الباريسيين الصارمة، وبسبب ما اعتبروه قلة الرغبة في مد يد العون لهم من جانب أصحاب المحال في المدينة، بالرغم من أن "الزبون يُعامل كملك في المحال اليابانية"، كما يقول ممثل رابطة تساعد الأسر اليابانية على الإقامة والاستقرار في فرنسا.

لكن هل تقتصر هذه المتلازمات بالفعل على مدنٍ مثل القدس وفلورنسا وباريس؟ وهل يستحق الأمر إصدار تحذيرات لزوار تلك المدن لتنبيههم إلى وجود خطر يتهددهم هناك؟

قبل الإجابة على هذا السؤال، لعل من الواجب الإشارة إلى أن المشكلات الخاصة بالصحة الذهنية تمثل أحد الأسباب الرئيسية للمتاعب الصحية التي يعاني منها المسافرون. وتفيد منظمة الصحة العالمية بأن حدوث حالة طوارئ بسبب المعاناة من مشكلة نفسية يشكل أحد أكثر الأسباب الطبية شيوعا لنقل شخص ما جوا بشكل عاجل من بلد لآخر.

كما أن الأرقام تشير إلى أن الإصابة بحالات ذهان حادة تشكل - على وجه التحديد - ما يصل إلى 20 في المئة من مشكلات الصحة العقلية التي يُصاب بها المسافرون، وليس كل هؤلاء من زوار مدينة مثل القدس بطبيعة الحال.

على أي حال، هناك الكثير من العوامل التي تجعل المسافرين المنهكين يشعرون بالضيق إلى حد يسلبهم القدرة على التعامل مع المواقف التي يمرون بها خلال رحلاتهم. إذ تسهم أسبابٌ مثل الإصابة بالجفاف أو الأرق أو اضطراب الرحلات الجوية الطويلة في المعاناة من الذهان، وذلك جنبا إلى جنب مع تعاطي الحبوب المنومة أو معاقرة الكحول خلال الرحلة، بالإضافة في بعض الحالات إلى تناول أدوية مثل أحد مضادات الملاريا.

ويتسبب خوف المرء من الطيران في حدوث ما بين 2.5 في المئة إلى 6.5 في المئة من هذه المشكلات، بينما ينجم ما يصل إلى 60 في المئة منها عن الشعور بالقلق الحاد. وبوسعك أن تضيف هنا أسبابا من قبيل، التوتر الناجم عن إجراءات التفتيش في المطارات، والوقوف في صفوفٍ طويلة أمام المتاحف، والمعاناة من اختلاف اللغة وكذلك التباينات الثقافية، بجانب الترقب الشديد للقيام برحلة ذات طابع ديني أو ثقافي طال انتظارها. ومن شأن تضافر كل هذه العوامل أن يمهد الطريق لأن تجتاح المرء اضطرابات ذهنية كتلك التي تحدثنا عنها في السابق.

أما بالنسبة للمسافرين الذين يصابون بأنواع حادة من الاضطرابات النفسية، فمن المرجح أن يكون سبب حالات الكثيرين منهم أنهم يعانون من الأصل من ذهان لم يكن الأطباء قد شخصوه من قبل، أو أنه كان لديهم استعداد للإصابة بهذا النوع من الاضطراب، قبل وقت طويل من إصابتهم بحالات مثل هذه خلال زيارتهم للقدس أو فلورنسا مثلا. فأكثر من نصف من أُدْخِلوا إلى المستشفيات من بين أفراد عينة الدراسة التي أجرتها الطبيبة النفسية غراتزيللا ماغيريني، كان لديهم تواصل من قبل مع طبيب نفسي.

كما قال معلقون في الدورية الطبية البريطانية التي تم على صفحاتها تناول "متلازمة القدس"، إنه لا ينبغي اعتبار المدينة نفسها عاملا مسببا للمرض، في ضوء أن التصورات التي تنجم عنها المشكلة المرضية التي يعاني منها بعض الزوار بدأت في مكان آخر سواها".

كما أن ثمة محاذير تكتنف صحة ما رواه الكاتب الفرنسي ستاندال عن رحلته لفلورنسا. فالمذكرات المُفصلّة التي كتبها الرجل في فترة مُعاصرة للزيارة كانت ذات طابعٍ ركيك، وحفلت مثلا بشكواه من ضيق حذائه طويل الرقبة، دون أن تتضمن ولو كلمة واحدة عما وصفه بتجربته المكثفة في كنيسة "سانتا كروز" في فلورنسا، بالرغم من أن الكتاب الذي نشره عن تلك الرحلة، وصف زيارته إليها بأنها كانت "التجربة الأعمق" التي وصل فيها إلى مرحلة "تخالج المرء فيها أحاسيس علوية".

فهل يمكن أن يكون قول المرء إن مشاهدته لفنون عصر النهضة، أدت إلى أن تجتاحه مشاعر غامرة بلغت حد سقوطه مغشيا عليه، ما هو إلا محاولة منه لتأكيد منزلته وسموه وثقافته الرفيعة؟ أم أنه يتعين علينا أن نصدق أنه يمكن بحق لفن رائع وعظيم مثل هذا، سلب لب الإنسان وعقله، بقدرٍ أكبر مما يحدث بسبب عوامل مثل الوقوف في صفوف لا نهاية لها أمام المتاحف أو اضطراب الرحلات الجوية الطويلة؟

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك: