لماذا يصنع فيلم "لالا لاند" التاريخ في عالم السينما؟
لندن – (بي بي سي):
رغم أنه من النادر أن تحظى الأفلام الرومانسية الكوميدية بنصيبٍ كبير من جوائز الأوسكار، فإن فيلم "لالا لاند" يتحدى هذا النمط السائد. الناقد الفني نيكولاس باربر يوضح السبب وراء العدد القياسي من الترشيحات لهذا الفيلم لنيل جوائز الأوسكار.
قبل شهرٍ واحد، سجل فيلم "لالا لاند" - الذي كتبه وأخرجه دميان شازال - اسمه في تاريخ جوائز جولدِن غلوب "الكرة الذهبية"، بعدما أصبح هذا العمل أول فيلم يفوز بسبعٍ من هذه الجوائز.
لذا لا يبدو مفاجئاً أن ينال "لالا لاند" أيضاً، الذي تدور أحداثه في لوس أنجليس، نصيباً يفوق ما يبدو وأنه حصته العادلة من الترشيحات لجوائز الأوسكار. فالعمل مرشحٌ لنيل كل جائزة في كل فئة يمكن تصورها تقريباً، بما في ذلك ترشيحه لنيل جائزتين في فئة أفضل أغنية مُعدة لفيلم سينمائي.
لتصبح الحصيلة 14 ترشيحاً، تجعله يقف على قدم المساواة مع فيلميّ "أول أباوت إيف" (كل شيء عن إيف) و"تيتانيك".
من الحتمي ظهور ما نشهده حالياً من رد فعلٍ عكسي لتلك الحفاوة الكبيرة بالفيلم، وهو موقفٌ لا يعود فقط إلى عدم حماسة البعض له، وإنما إلى أن هؤلاء يعتبرونه أيضاً عملاً ضعيفا، وواهياً إلى حدٍ يجعله قابلاً من فرط ضعفه للطيران في الهواء، تماماً كما حدث لبطليه أثناء زيارتهما لمرصد "غريفيث" خلال الأحداث.
وفي مقال نشرته مجلة "ذا إيكونوميست" مؤخراً، ذهب أحدهم للقول إنه في ضوء الجدل الذي دار العام الماضي، حول انحياز القائمين على اختيار الفائزين بجوائز الأوسكار لذوي البشرة البيضاء؛ فإن الكثيرين سيشعرون أن الاهتمام بل والتزلف النقدي سيُوجهان عن حق في العام الحالي للأعمال التي يهيمن عليها الطابع السياسي والاجتماعي، مثل أفلام "ضوء القمر"، و"لافينغ"، و"ميلاد أمة".
ما سبق يمثل رد فعل مفهوماً. ففيلم "لالا لاند" لا يبدو ذا طابع انفتاحي للغاية مُقارنةً بأفلامٍ مثل "ضوء القمر"، و"شخصيات خفية"، و"فينسز" (أسيجة)، وكلها أعمالٌ مرشحة للحصول على أوسكار أحسن فيلم.
لكن ذلك لا يعني أن "لالا لاند" يشكل خياراً جدير بالازدراء من جهة، أو بديهياً من جهة أخرى لمن سيصوتون على اختيار الأعمال الفائزة بالجوائز. فما يجعل فيلمنا هذا حالةً غير معتادة للغاية، هو أنه يتسم بميزاتٍ تؤهله للحصول على جوائز أوسكار، رغم افتقاره لأي رسالةٍ سياسيةٍ واضحة.
وتتميز قائمة الأفلام المرشحة لجوائز أوسكار هذا العام بتنوعٍ مذهلٍ ولافتٍ للنظر، إذ تضم الكثير من الأعمال الرائعة، بقدرٍ أكبر مما هو معتاد. لكن ذلك لم يغير حقيقة أن جاذبية الأعمال الدرامية ذات الثقل والتأثير- من تلك التي تتناول قضايا جادة وخطيرة - تشكل العامل الذي لا يزال يسترعي انتباه أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة التي تتولى منح الجوائز.
فعادةً ما تتناول الأعمال الفائزة بجائزة أوسكار أحسن فيلم، قضايا مثل أهوال إساءة معاملة الأطفال، مثل ما فعله فيلم "سبوت لايت"، أو قضايا العبودية، كما في فيلم "12 عاماً من العبودية"، أو الحروب، مثل فيلم "خزانة الألم"، أو الفقر، مثل "المليونير المتشرد".
حتى صناع فيلمي "بيرد مان"، و"ذا أرتيست"، وهما أكثر فيلميّن معاصرين ذوي صبغة ترفيهية فازا بالأوسكار، زجا بأبطال العملين في أغوار مشاعر الاكتئاب والعزلة والاغتراب.
وبالمقارنة بأبطال تلك الأفلام سالفة الذكر، ليس لدى البطليّن الشابيّن الحالميّن ذوي الجاذبية والموهبة في فيلم "لالا لاند"، الكثير ليشكيا منه.
لكن ذلك تحديداً ما يجعل هذا العمل ذا طابع استثنائي، بل ومختلف بشكلٍ كبير عن سواه، فيما يتعلق بالنجاح الذي يحرزه سواء في الفوز بالجوائز، أو الترشح لها. فهو فيلم رومانسي كوميدي في الأساس، ونادراً ما تتذوق الأعمال المنتمية لهذه الفئة طعم جوائز الأوسكار.
لا هزل من فضلكم
في عام 1978، كان الموعد مع فوز فيلم "آني هول" بجائزة أوسكار أحسن فيلم، كأخر عمل رومانسي كوميدي يحظى بهذا الشرف. ومنذ ذلك الحين، لم يُرشح أي فيلم من هذه النوعية تقريباً لنيل تلك الجائزة.
وفي عام 1995، وصل فيلم "أربع زيجات وجنازة " للقائمة المختصرة للأعمال المرشحة للفوز بأوسكار أحسن فيلم. لكن بوسعنا إذا أقْدَمنا على توسيع نطاق تعريف الأفلام الرومانسية الكوميدية قليلاً، أن نضم إلى قائمة ما رُشح منها لنيل الأوسكار أعمالاً مثل "جيري ماكغواير" عام 1997، و"آز غود آز إت جيتس" (أفضل ما يمكن الوصول إليه) في العام التالي.
لكن أياً من الفيلمين لم يكن في أي وقت من الأعمال المرشحة بقوة للفوز. وعلى مدار العقدين التالييّن، لاقت الأفلام الرومانسية الكوميدية تجاهلاً شبه كامل من قبل القائمين على اختيار الأعمال الفائزة بالأوسكار، رغم أن القائمة المختصرة للأفلام المرشحة اتسعت منذ عام 2010 لتضم 10 أعمال.
ورغم أن فيلم "الفنان" يبدو الأقرب لتصنيفه في هذه الفئة، من بين الأعمال الفائزة بأوسكار أحسن فيلم، فإن طابعه بدا ميلودرامياً أكثر، كما أن بطلته كانت أقرب إلى صاحبة دور ثانٍ، منها إلى بطلةٍ لعملٍ سينمائي.
ومنذ أمدٍ طويل، تُوصم الأكاديمية المانحة لجوائز الأوسكار بأنها تتجاهل الأعمال الرومانسية الكوميدية، وكذلك كل الأفلام الكوميدية. وكما قال الكوميديان والموسيقي الأمريكي جاك بلاك مازحاً في حفل توزيع جوائز عام 2008؛ فإن التحول لتقديم أدوارٍ جادة، هو السبيل الوحيد المتاح أمام أي كوميديان للفوز بالأوسكار.
وخلال الحفل قال بلاك بنبرة متسارعة متحمسة: "سأعيد قراءة ذلك النص المتعلق برجلٍ يصاب بتسممٍ بالرصاص، ثم يُقاضي مؤسسةً كبرى، ليس ثمة ضحكة" واحدة في مثل هذا النص. ولكن إذا نحينا مسألة تحيز الأكاديمية جانباً، فسنجد أن عدد أفلام هوليوود ذات الطابع الرومانسي الكوميدي آخذٌ في التراجع منذ تسعينيات القرن الماضي.
المفارقة أن "رايان غوسلينغ" بطل "لالا لاند"، لابد وأن يتحمل جانباً من اللوم أيضاً في هذا الشأن. فمنذ أن استحوذ على قلوب الملايين من خلال دوره في فيلم "نوت بوك" (دفتر ملاحظات) الذي أُنْتِجَ عام 2004، تحول الشكل النموذجي لأي فيلمٍ يتناول عاشقيّن مُلاحقيّن بسوء الطالع، لا يتعدى إعادة معالجة مملة تفتقر لأي روح، لقصة ذلك الفيلم التي كتبها نيكولاس سباركس، مع ضرورة أن يشمل ذلك ظهور شخصية واحدة على الأقل مصابة بمرض السرطان ضمن الأحداث.
أما المخرجون الذين يريدون إضفاء طابعٍ كوميدي على أعمالهم الرومانسية، فقد ساروا على درب المخرج وكاتب السيناريو فارلي براذرز، الذي يجعل الحب في أفلامه مساوياً للألم البدني والإذلال العلني.
كما حذا هؤلاء حذو المخرج والكاتب والمنتج الأمريكي جَدْ إبِتاو، الذي يرى أن العلاقات الرومانسية تمثل شيئاً يمكن التطرق إليه على عجالة، بين مجموعات من المشاهد الحافلة بالكلمات البذيئة التي تستعرض علاقات حميمية وطيدة - وإن كانت غير جنسية - بين رجلين.
ولعل بوسع المرء أن يدرك مدى تفرد "لالا لاند"، إذا حاول أن يتذكر أخر مرة شاهد فيها فيلماً كوميدياً جديداً، يستعرض علاقة عاطفية بين شاب وفتاة على نحو يبعث الأمل والسعادة في قلوب مشاهديه، دون أن ينطوي على تهكم وسخرية، أو يكون مثيراً للتقزز والغثيان.
في النصف الأول من "لالا لاند"، الذي يبدو أشبه برقصة طويلة تصور مشاعر الإعجاب والغزل والتجاذب بين البطلين، لا يرتكب صناع الفيلم أي خطأ مهما كان. فـ"شازال" يقدم بطليّه: ميا - ممثلة طموحة (تؤدي دورها إيما ستون)، وسَاب وهو عازفٌ لموسيقى الجاز على البيانو (يجسد شخصيته رايان غوسلينغ) - وهما يتبادلان نظراتٍ ساخطة وعدائية، في مشهد افتتاحي للعمل يعج بالتكدس المروري.
بعد فترة من ذلك، تُفتن ميا بعزف سَاب على البيانو في أحد المطاعم. لكن المشكلة أنه كان في تلك اللحظات يغلي من الغضب جراء فصله من العمل للتو، ما يجعله يمر بجوارها بعنف وقوة، قبل أن يختفي في زحام الطريق.
ولو كنّا في أحد الأفلام الرومانسية الكوميدية، من ذاك الطراز الشائع في قرننا الحالي، لكان من شأن البطليّن أن يكونا بحلول هذه المرحلة من تعارفهما، قد شرعا في احتساء الخمور معاً ومن ثم الانخراط في علاقة حميمة في الفراش، قبل أن يشكو كلٌ منهما إلى رفاقه بأنه ارتكب خطأ محرجاً.
لكن شازال يكرس الجزء الأول من فيلمه، لاستعراض ما يقوم به ميا وسَاب في المجال المهني لكل منهما، وما يُفْعِمُ قلب البطلين من مشاعر وعواطف وأهواء. وهكذا فعندما يتمكنان في نهاية المطاف، من الجلوس للحديث معاً، رغم كل الانشغالات والعقبات، يكون الجمهور مهيئاً ومستعداً لأن يرى أنهما وقعا بالفعل في حب بعضهما البعض.
لكن اللافت أن إيقاع الفيلم يكتسب - منذ تلك اللحظة - ثقةً مفعمة بالهدوء ويعمها طابعٌ من الابتهاج والسعادة.
وثمة مشهدٌ بديع تسخر فيه ميا من سَاب خلال حفلٍ يُقام على حمامٍ للسباحة، ويعزف في إطاره البطل مع فرقةٍ تعيد تقديم أغنيات تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي. وهنا تتجسد حماستها الممزوجة بالسخرية - على نحو مرضِ لـ"سَاب" - حينما ترقص في وقت لاحق على نغماتٍ يعزفها بشكل مرتجل.
وبعد الحفل، يتمشيان ببطءٍ وتمهل عائديّن إلى سيارة كلٍ منهما في ظلام شبه دامس، ثم نراهما في نزهة أخرى متمهلة بين ديكوراتٍ وتجهيزاتٍ تابعة لأحد استوديوهات هوليوود، وذلك خلال تمشيةٍ تستهدف أن يتعرفا بشكلٍ أكبر على بعضهما البعض.
بجانب ذلك، يضربان موعداً للالتقاء في دارٍ للسينما، تكاد ميا أن تُخْلِفَهُ، قبل أن نصل في نهاية المطاف إلى ذلك المشهد الحالم الذي دار في أروقة مرصد غريفيث. ويمكن لنا هنا الاستشهاد بما قاله "إبِتاو" من قبل، من أن الأعمال الكوميدية التي تُنفذ على نحو ناجحٍ ومحكمٍ، تعطي انطباعاً للجماهير بأن تقديمها لا يحتاج مجهوداً يُذكر، وهو ما يجعل الناس يتصورون أن تجسيد البؤس والمآسي على الشاشة أمرٌ أكثر صعوبة.
وهكذا فإن العرض البارع للعلاقة العاطفية عتيقة الطراز، التي تتضمنها أحداث "لالا لاند"، يبدو كما لو كان يتم دون عناءٍ أو مجهود. لكن السؤال هنا يتمثل في أنه إذا كان تقديم فيلمٍ مثل هذا يسيراً وسهلاً بهذا القدر، فلِمَ لا نرى آخرين - بخلاف شازال - يعملون على تقديم أعمالٍ مماثلة أو مشابهة؟
وكان من حسن الطالع أن يعتذر الممثلان اللذان رُشِحا في البداية لبطولة الفيلم؛ إيما واتسون ومايلز تيلر، عن المشاركة فيه، ما أفسح الطريق أمام إسناد الدوريّن إلى ستون وغوسلينغ، بكل ما يميزهما من قابلية كبيرة لدى الجماهير وما يتمتعان به من تناغمٍ وتوافقٍ كبيريّن.
وقد سبق وأن قام الاثنان بدوريّ البطولة أمام بعضهما البعض في فيلميّ "غانغستر سكواد"، و"كريزي، ستيوبد، لاف". وإلى جانب ما يتميز به هذان الممثلان من سحرٍ في الأداء نتيجة تمكنهما من قدراتهما الفنية؛ يتمثل السبب الرئيسي في التناغم الذي ساد بينهما خلال العمل في التباين الحاد بين أسلوب تمثيل كل ٍ منهما.
فمشاعر "ستون" وعواطفها تتدفق من كل جوارحها، وهو ما يجعل كل ما يعتمل في نفس شخصيتها في الفيلم، سواء كان مشاعر غضب أو ابتهاج، يرتسم على ملامح وجهها، لا أن يكتفي بالتألق في عينيها الواسعتين فقط.
أما غوسلينغ وهو أحد أكثر ممثلي هوليوود المتميزين بطريقتهم المتحفظة في الأداء التمثيلي جاذبيةً وسحراً؛ فيؤْثِر أن تنحصر تعبيرات وجهه وردود فعله في الابتسام على نحوٍ متكلف حيناً أو رفع أحد حاجبيه حيناً آخر. ويشكل هذا التباين الكبير بين الاثنين، العامل الذي يدفع المشاهدين إلى أن يتوقوا وبشدة، في أن يروا سَاب وقد غدا منفتحاً وسخياً في مشاعره وردود فعله على غرار ميا.
بطبيعة الحال، هناك الكثير مما يُمكن أن يُقال بشأن ما يتميز به "لالا لاند"، بجانب ما أشرنا إليه حول الطريقة التي يتفاعل بها بطلاه والشخصيتان اللتان يجسدانهما. فالعمل حظي بـ 14 ترشيحاً للفوز بجوائز الأوسكار، عن أمورٍ عديدة مثل السلاسة والتدفق اللذين تميزت بهما حركة الكاميرا في تصوير المشاهد، وكذلك بفضل البريق الذي تكتسي به أزياؤه وتصميم مشاهده، بفعل مواكبتهما لأحدث صيحات عصرنا في هذا الشأن.
ومن بين العوامل الأخرى التي جعلت الفيلم يُرشح لكل هذا العدد من الجوائز، أغنياته التي صاغ موسيقاها جاستِن هورفيتز، والتي تبعث في سامعيها الشعور بالرغبة في النقر بأقدامهم على الأرض تماشياً مع إيقاعاتها.
لكن من المؤكد أن السحر الذي تصطبغ به ساعته الأولى المفعمة بالبهجة والحيوية، هو ما يجعل "لالا لاند" جديراً بالجوائز؛ سواءٌ ما ناله منها بالفعل، أو ما سيفوز به في المستقبل، وهو سحر ينبعث من عملٍ كوميديٍ مُحكم البناء على نحو رائع، يدور حول شخصين يبدوان كما لو كانا يعزفان مقطوعةً موسيقية بديعة معاً.
فيديو قد يعجبك: