مصر: هل تعود إلى جمهورية العسكر؟
لندن - بي بي سي
شهدت مصر في الأسابيع الأخيرة مشاهد عنف أسفرت عن سقوط المئات من القتلى في أعقاب تصدي قوات الأمن لمتظاهرين يحتجون على الإطاحة بالرئيس الاسلامي المنتخب ديمقراطيا، محمد مرسي، على يد الجيش المصري.
وكانت الإطاحة بمرسي بناء على احتجاجات واسعة النطاق ضد حكومته التي تولت مقاليد السلطة في أعقاب حكم عسكري تلى الضغط على الرئيس الأسبق حسني مبارك من أجل التنحي عن مهام منصبه عام 2011.
فيما يلي يلقي خبير شؤون الشرق الأوسط، عمر عاشور، نظرة تاريخية على تعاقب الإرث العسكري في مصر، ويقول إن التحديات التي تواجه الدولة في أعقاب ثورات الربيع العربي تعود إلى حقبة حكم الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر وما قبل تلك الفترة.
كتب المؤرخ المصري الشهير، عبد الرحمن الرافعي، في جريدة (الأخبار) في عددها الصادر أول أغسطس/آب عام 1952 "زعيم الانقلاب – البطل (اللواء) محمد نجيب – أعطى مثالا للتواضع من خلال رفضه الترقية إلى رتبة الفريق، وهو ما يدل على أن الجيش المصري لا يريد السلطة، وقال إن رتبة لواء تكفي".
وبحلول فبراير/شباط عام 1954 عزل ضباط أصغر سنا من اللواء المتواضع، الذي يعتبر أول رئيس لمصر، طامعين في السلطة بقيادة جمال عبد الناصر.
وسقطت مصر، كما هو الحال حاليا، في حالة انقسام.
أراد أحد الأطراف ديمقراطية برلمانية وعودة النظام الدستوري وأن يعود الجيش إلى ثكناته.
فيما أراد طرف أخر في مصر راعيا قويا يتمتع بسمات شخصية جذابة وعد بالاهتمام بهموم المواطنين.
وبحلول نوفمبر عام 1954، لم يسحق الطرف الأخير الطرف الأول فحسب، بل عمل على تدمير طلباته، وكانت الحريات الأساسية والنظام الدستوري البرلماني من بين الضحايا.
وصادر عبد الناصر الأراضي (من الإقطاعيين) وأعاد توزيعها (على صغار الفلاحين)، كما دخل في مواجهة مع المملكة المتحدة، القوة الاستعمارية السابقة، عام 1956.
لكن التكلفة كانت تأسيس جمهورية الضباط: وهي دولة تتصدر فيها المؤسسات العسكرية المشهد وتعتلي المؤسسات المنتخبة.
بماذا يرغب جنرالات مصر؟
خلال ثورة يناير 2011 برزت تحديات للأوضاع التي كانت تمر بها البلاد عام 1954 في مناحي كثيرة.
كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة "محافظا" من الناحية السياسية، وهو مجلس غير دستوري حكم مصر في الفترة بين فبراير/شباط 2011 و يونيو/حزيران 2012.
وكانت مفاهيم إصلاح قطاع الأمن و الرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة و رقابة المؤسسات المدنية على مؤسسات الجيش والشرطة إلى جانب توافر الشفافية بشأن ميزانية الجيش متشددة في طابعها، بل مفاهيم غريبة. والأسوأ من ذلك هو أن هذه المفاهيم هددت المحرمات ومن ثم كان ينبغي محوها أو تجريدها من مغزاها.
وفي أعقاب الإطاحة بمبارك في فبراير/شباط 2011، احتفظ المجلس الأعلى للقوات المسلحة بأدنى ثلاثة مطالب وهي: حق الاعتراض (الفيتو) على السياسات الكبرى، واستقلال ميزانية الجيش والامبراطورية الاقتصادية، والحصانة القانونية من المحاكمات في مواجهة أي اتهامات بالفساد او القمع.
كما أراد التمتع بامتيازات دستورية لضمان هذه الترتيبات.
وبرزت هذه المطالب في الإعلان الدستوري الصادر في يوليو/تموز 2012 الذي أعطى المجلس امتيازات في أول برلمان أعقب الثورة، والذي قام المجلس بحله بالقرار رقم 350 في الثلاثين من يونيو/حزيران 2012 (بعد حكم أصدرته المحكمة الدستورية يفيد بأن القانون الانتخابي للبرلمان ليس دستوريا في أحد جوانبه."
وخول هذا القرار جميع السلطات التشريعية في يد المجلس قبل أيام من تولي أول رئيس مدني منتخب مهام سلطته في يوليو/تموز 2012.
وكانت للإمبراطورية الاقتصادية المستقلة للجيش، التي تستفيد من الجمارك الممتازة وأسعار الفائدة والإعفاء الضريبي وملكية الأراضي وحقوق المصادرة، وجيش من العمالة المجانية (من المجندين) مصدرا لزيادة نفوذ الجيش، ومن ثم القضية الشائكة التي تكمن في انتخاب شخص مدني (رئيسا للبلاد).
كما ظل هناك ثقبا أسودا في الاقتصاد المصري الذي يعاني عثرات، وهي أن السياسيين المنتخبين في أعقاب الثورة ربما سعوا إلى تحسين الظروف من خلال التحرك في اتجاه مضاد للأصول المدنية للجيش وفرض إشراف على ذلك.
لكن في مارس/اذار 2012، أعلن الجنرال محمود ناصر، عضو المجلس العسكري والمسؤول عن الشؤون المالية، تحذيرا علنيا جاء فيه "هذا جهدنا وسنكافح من أجله، ولن نسمح لكأئن من كان أن يقترب من مشروعات القوات المسلحة."
ماذا يخشى جنرالات مصر؟
على الرغم من سلطته، كان المجلس حساسا جدا لعوامل معينة، من بينها الضغط من جانب الولايات المتحدة المتمثل في عناصر التسليح والتدريب والتجهيز والتمول.
عامل أخر هو الحشد في الشارع، فأغلب القرارات المؤيدة للديمقراطية التي اتخذها المجلس جاءت نتيجة ضغوط حاشدة من المحتجين في الشارع.
كان من بين هذه الضغوط الإطاحة بحسني مبارك ومحاكمته ومحاكمة شخصيات أخرى في النظام الحاكم وتحديد موعد للانتخابات الرئاسية وهو يونيو/حزيران 2012 بدلا من يونيو/حزيران 2013.
العامل الثالث الذي أثر على صناعة القرار داخل المجلس هو الحفاظ على التماسك الداخلي للجيش.
قال لي ضابط سابق "مشهد تظاهر ضباط يرتدون الزي العسكري في ميدان التحرير والتحدث إلى قناة الجزيرة مشهد أقلق المشير (محمد حسين طنطاوي)."
وكان أحد سبل الحفاظ على التماسك الداخلي هو خلق "فزاعات" – مثل الدرس المستفاد من "الحروب القذرة" في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي والأرجنتين في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
وبات المتظاهرون الأقباط هدفا سهلا لتصدي الجنود والضباط لهم.
ففي اكتوبر/تشرين الأول عام 2011، تصدى الجيش لمسيرة احتجاجية للأقباط تندد بحرق كنيسة.
وسقط 28 مسيحيا من الأقباط فضلا عن إصابة ما يربو على 200 اخرين، غير أن التلفزيون الرسمي أذاع مشهدا لأحد الجنود المصريين وهو يصرخ قائلا "المسيحيون- أولاد الكلاب – قتلونا".
وخدمت عمليات التخويف الممنهجة للمجموعات الثورية المعادية للمجلس العسكري، وتصاعد العنف الذي أعقب شهري نوفمبر/تشرين الثاني و ديسمبر/كانون الأول نفس الغرض. لقد أصبح الأخوان المسلمون والاسلاميون في أعقاب انقلاب يوليو 2013/تموز "فزاعات" جديدة قديمة.
المسلح في وجه المنتخب
وتم اتخاذ خطوة أخرى بهدف إحداث توازن في العلاقات المدنية العسكرية في أعقاب انتخاب الرئيس مرسي عام 2012.
وفي شهر أغسطس/آب من ذلك العام، لم يكن مرسي فقط قادرا على تجميد الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس العسكري في يونيو/حزيران 2012، ولكنه كان قادرا أيضا على تطهير المجلس العسكري من الجنرالات الذين أصدروا هذا الإعلان (المشير محمد حسين طنطاوي، ونائبه الجنرال سامي عنان).
لكن كان هناك ثمن ليدفعه مرسي مقابل مثل هذه الخطوات.
وفي دستور 2012، والذي وافق عليه 63.83 في المئة من المصريين، كانت العلاقات المدنية العسكرية بعيدة تماما عن التوازن.
ليس فقط في أن من يتولى منصب وزير الدفاع يجب أن يكون عسكريا (المادة 195)، ولكن أيضا يجب أن تكون لمجلس الدفاع الوطني أغلبية من القادة العسكريين (المادة 197).
وهذا يقدم للجيش وبشكل فعال الحق في الاعتراض على أي أمور تتعلق بالأمن القومي أو الشؤون ذات الحساسية في السياسة الخارجية.
وقال اللواء ممدوح شاهين، ممثل القوات المسلحة في الجمعية التأسيسية للدستور: "إذا أضفت واحدا منكم، فسوف أضيف واحد منا،" وذلك في رده على القيادي الإخواني محمد البلتاجي المطلوب حاليا.
وكان الأخير قد اقترح إضافة مدني آخر في مجلس الدفاع الوطني، وهو رئيس لجنة الموازنة في البرلمان، لكن اقتراحه رفض، وكان كل ذلك يذاع عبر الكاميرات.
انقلاب يوليو: من 2013 إلى 1954؟
وربما يقود إنقلاب يوليو/تموز 2013 مصر إلى العديد من السناريوهات السيئة، وهي ليست سناريوهات مؤكدة، ولكن مستقبل الديمقراطية في مصر في خطر بالتأكيد.
فحينما يتم حل المؤسسات المنتخبة عن طريق القوة العسكرية، فإن نماذج الماضي تظهر أن النتيجة ستكون في الغالب غير جيدة على الإطلاق بالنسبة للديمقراطية: (ومن تلك النماذج) ديكتاتورية عسكرية كاملة، سيطرة عسكرية على السياسة بوجه مدني، حرب أهلية، عدم استقرار مدني، أو خليط من كل ما سبق.
ومن بين تلك النماذج القليلة أسبانيا في عام 1936، وإيران عام 1953، وتشيلي عام 1973، وتركيا عام 1980، والسودان عام 1989، والجزائر عام 1992.
ويعد انقلاب يوليو/تموز خطوة للخلف في العلاقات الديمقراطية المدنية العسكرية، كما أن ما يثير مزيدا من القلق هو الآثار الإقليمية المترتبة عليه.
والرسالة التي بعث بها الانقلاب إلى ليبيا، وسوريا، واليمن، وما وراءها هي بشأن عسكرة السياسة: فالسلاح وحده هو الذي يضمن الحقوق السياسية، وليس الدستور، وليست المؤسسات الديمقراطية وبالتأكيد ليست الأصوات الانتخابية.
وفي النهاية، ما يظل أكيدا هو أنه لا يوجد هناك انتقال ديمقراطي كامل بدون استهداف الانتهاكات، والقضاء على التعذيب، وانهاء الإقصاء، وإلغاء حصانة الأجهزة الأمنية، مع وجود سيطرة مدنية فعالة وهادفة على كل من القوات المسلحة والمؤسسة الأمنية.
وسيكون هذا دائما هو الاختبار النهائي للانتقال الديمقراطي في مصر.
فيديو قد يعجبك: