إعلان

من يحبُّ مصر؟

من يحبُّ مصر؟

من يحبُّ مصر؟

08:43 م الخميس 27 ديسمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم- الدكتور محمود الهواري

قديما ترجم الشاعر أحمد رامي حبَّه لوطنه في كلمات سكنت قلبه قبل أن تصورها أنامله على الأوراق، وقبل أن تنطق بها ألسنة العاشقين، فقال في قصيدة تحتاج إلى أن يتغنَّى بها كل مصريّ حرّ:
مصر التي في خاطري وفي فمي
أحبُّها من كلِّ روحي ودمي
ومصر لمن لا يعرف ليست ترابا ككلِّ تراب، وليست مساحة جغرافية ضيقة، بل إن مصر أرحب وأوسع وأعمق.

مصر الدين، مصر التاريخ، مصر الحضارة.
واسألوا التاريخ عمَّن سجَّل الحضارة ودوَّنها، إن الكاتب المصري أول من خلّد بقلمه تراثه الفكري والإنساني، بدءًا بآداب السماء وتعاليمها، ومرورا بالحراك الحضاري.

هذا الكاتب المصري الذي صنع قلمه من غاب نهر النيل، والورق من البردي، والفرشاة من ريش الأوز، وبتلك الأدوات قدَّم للبشرية كلها أفكاره التي جمعت بين العقيدة والفن والفكر والعلم والخيال.
مصر هي الفلاح الفصيح الذي ظلَّ أياما يعبر عن مظلمته بأدب جمّ، وفصاحة عالية، وكلمات صائبة صارت فيما بعد أنشودة العدل وأهله.

مصر النيل، وما أدراكم ما النيل!
مصر العلوم؛ فعلى حياضه نمت علوم الدين منذ أن دعا إخناتون إلى عبادة إله واحد، ومرورا بإبراهيم عليه السلام، ويوسف عليه السلام، وعيسى عليه السلام وختاما بالإسلام.

ونمت إلى جانب الدين علوم الحياة، فأنجبت مصر أحمد زويل، ومجدي يعقوب، وفاروق الباز، ومصطفى السيد، ويحيى المشد، وسميرة موسى، وغيرهم يطول المقام بذكرهم.

مصر وطن العبَّاد والزهَّاد، والأمجاد والروَّاد، علماء وحكماء، وكرماء وحلماء، وشعراء وأدباء، وفصحاء وخطباء، ونجباء وأذكياء، وأولياء وأصفياء وأوفياء.

ومثل هذه المقومات من دين وعلم وفكر وعلاقات إنما هي مقومات حضارية عتيقة تتجدد بتجدُّد الزمان، ووجودها على هذا المدى الزمني البعيد الضارب بجذوره في عمق التاريخ يؤثر لا شك في منظومة القيم والأخلاقيات التي هي روح حياة هذا الوطن وأبنائه، حتى إنك لتشعر أن ما يجري في عروق المصريين ليس دما، وإنما هو مزيج من دين وحضارة وفن وإبداع وثقافة وقيم، وهذا ما ينبغي أن يكون.

وإذا كانت هذه مصر، فالسؤال الذي لا بد من الإجابة عليه: هل هذه المنظومة القيمية والأخلاقية الحضارية العتيقة لا زالت موجودة فينا؟
وهل حافظنا عليها؟
وهل أكرمناها؟
هل فهمنا قيمتها وقدرها؟
حين أقلب بصري في حالنا مع وطننا أجد مفارقة عجيبة أشبه بالمرض النفسي المعروف بالانفصام، فنحن مع كل مناسبة وطنية أو ثقافية أو اجتماعية أو من أي نوع تقريبا اعتدنا أن نعبِّر عن حبنا لوطننا بمجموعة من الأغاني والشعارات التي أَلِفَتها آذاننا، وكررتها ألسنتا، حتى أوشكت أن تفقد معانيها.

وبقليل من المصارحة ندرك أننا نفصل كثيرا بين النظرية والتطبيق، والمظهر والجوهر، فبينما تتكلم ألسنتنا بكلام وشعارات تصور العشق لذرات تراب هذا البلد، إذا بسلوك بعضنا يكذب هذا ويفضحه.

انظروا كم ينفق بعض الناس على المحرمات بأنواعها، وقارن هذا الرقم العملاق بالرقم القزم الضعيف الذي ينفق على التثقيف والتربية. ويا للعجب!
انظروا إلى النيل كيف يفيض علينا بنعمائه، وانظر كيف تتعامل معه الأيدي العابثة، هتكا لحرمته، وعبثا بقيمته!
وأنا لا أرتدي نظارتي السوداء حين أصرِّح بهذه التساؤلات.

لكني يأخذني العجب من بُعدِ بعض الناس عما تفرضه مصر قيمة ومكانة وتاريخا وحضارة وأخلاقا وعلما وفكرا وفنا وجمالا، في جفوة وقطيعة جائرة، وطبع غليظ كثيف، بل في مقامرة خاسرة تمام الخسران، ولو ربح فيها المقامر مال قارون!
فهؤلاء الذين يستهدفون شباب مصر بالمخدرات والمسكرات جلبا واتجارا وتسهيلا وتسترا، ممن لا يعرفون مصر ولا تاريخها ولا قيمها ولا حضارتها.

وهؤلاء الذين يشغلون الناس لا سيما الشباب بالتفاهات وسفاسف الأمور، ويصرفونهم عمدا عن معالي الأمور التي رضيها لنا الله تعالى، ممن لا يعرفون مصر ولا تاريخها ولا قيمها ولا حضارتها.

وهؤلاء الذين يقتلون القدوة في نفوس الناس، حتى قلَّ الاحترام والتوقير بينهم، ممن لا يعرفون مصر ولا تاريخها ولا قيمها ولا حضارتها.

وهؤلاء الذين يبعدون الشباب عن تاريخ وطنهم، ويصورون لهم كل ما عداها جميلا وحسنا وإن كان في غاية القبح، حتى أخرجوا لنا مسوخا شائهة، لا هي بالأصل تمسكت، ولا بالوافد الأجنبي انتفعت، فصارت كالنقود الزائفة شكل جميل، ولا قيمة لها، هؤلاء ممن لا يعرفون مصر ولا تاريخها ولا قيمها ولا حضارتها.

وهؤلاء الذين يقدمون مصالحهم على مبادئهم، وحاجاتهم على قيمهم ممن لا يعرفون مصر ولا تاريخها ولا قيمها ولا حضارتها.

وهؤلاء الذين لا يعرفون إلا أنفسهم وشهواتهم وملذاتهم ولو كانت من حرام، حتى قطعوا الرحم، ووصلوا الحرام، ممن لا يعرفون مصر ولا تاريخها ولا قيمها ولا حضارتها.

هؤلاء وغيرهم ممن يسعون في هدم منظومة الأخلاق والقيم وانهيارها، على خطأ كبير، وعلى جفاء أكبر مع مصر وما تحمله من قيم وأخلاق.

وأرجو أن نتكاشف ونتصارح حتى نعمل على علاج مشكلاتنا، وإلا كنا من قوم يخشون كشف الخطأ، أو يقولون للغول: "عينك حمرا"

إعلان

إعلان

إعلان