أبجديات السعادة الأسرية
بقلم - د. خالد النجار :
من منا لا ينشد السعادة في الدنيا والآخرة، ومن منا لا يسعى إليها سعيا حثيثا كل حسب رؤيته وميوله وقدراته ورغباته .. فهذا سعيه للمال، وذاك سعيه للجاه، وآخر سعيه لانتهال اللذات، والكل يغدو ناشدا السعادة والهناء، وفق من وفق، وخاب من خاب.
لكن أي قيمة للسعادة بعيدا عن منزل هادئ نظيف، وزوجه رائعة طيعة، وأطفال تتدفق البراءة منهم كتدفق قطرات الماء العذب في جدول الربيع .. هل يمكن لنفس سوية أن تستشعر السعادة وسط ضجيج الأسواق وتوتر البورصات ومعارك النفوذ والمناصب وصخب السهرات والانغماس في الملذات دون حسيب ولا رقيب؟!.
إن السعادة لا تعني إلا السكن والاسترخاء بعد يوم كد وعمل، والسعادة لا تزيد عن رغبة ملحة في العودة لرحاب أسرة يتوقف في أجوائها ضجيج الحياة وعنف الانفعالات ومعاناة التوترات، والسعادة هي السكن والمودة والرحمة الزوجية التي جعلها الله تعالى آية من آياته، فقال جل ذكره ممتنا على عبادة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]
قال المفسرون: {لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} والسكن إلى شيء هو نقيض التحرك، والمعنى إنكم تتحركون من أجل الرزق طوال النهار ثم تعودون للراحة عند زوجاتكم، فالرجل عليه الحركة، والمرأة عليها أن تهيئ له حسن الإقامة، وجمال العشرة وحنان وعطف المعاملة. فالمسئوليات موزعة توزيعاً عادلاً، فهناك حق لك هو واجب على غيرك، وهناك حق لغيرك وهو واجب عليك.
{وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} بعد أن لم يكن سابقة تعارف يوجب التواد، فالزوجان يكونان من قبل الزواج متجاهلين فيصبحان بعد الزواج متحابين، وأن جعل بينهما رحمة فهما قبل الزواج لا عاطفة بينهما فيصبحان بعده متراحمين كرحمة الأبوة والأمومة.
ويقول الشيخ محمد عبده عن الزوجة: "وهى منه بمنزلة البعض من الكل، وألزم له من الظل، وصاحبته في العز والذل، والترحال والحل، بهجة قلبه، وريحانة نفسه، وأميرة بيته، وأم بناته وبنيه"
والمودة من أبواب المحبة التي تتضمن التمني مع اتخاذ الأسباب الموصلة إلى المحبوب، وعلى العكس فهروب الزوج من عش الزوجية لابد أن يكون له من الأسباب والمبررات ما يقض مضجعه ويذبح سكينته فيجد نفسه مضطرا لأن يبحث عن سعادته وراحته في موطن آخر غير القفص الذهبي والعش الوردي. منهم من يبحث عن السعادة على المقهى أو في النادي أو في دور السينما، ومنهم من يهرب هروبا داخليا فيدمن الجلوس على النت أو أمام شاشات الفضائيات، ويكون «الحاضر الغائب» .. حاضرا بجسده غائبا بروحه وفكره.
لكن يبقى للروتين الزوجي العامل الأكبر في هروب السعادة الزوجية ومحاولة كل طرف بالبحث عنها خارج إطار الأسرة وهيهات أن يجدها .. إن النفس ملولة وتعشق التجديد، ورتابة الحياة الزوجية لا تروق لها بحال من الأحوال، وللزوجين دورا في ترسيخ هذه الرتابة بين جنبات المنزل عندما يتخلى كل واحد منهما عن محاولة إنعاش الأحداث وتجديد المواقف وإعادة ترتيب العلاقة بينهما.
فكما أن مسئوليات الزوجية توفير متطلباتها واحتياجاتها المادية، أيضا من متطلباتها الحفاظ على أجواء الود والتآلف، فالزوج عليه أن يخرج عن نمطيته المعتادة بإشاعة جو الدعابة من حين لآخر والخروج للتنزه سويا، ولا ننسى أيضا جلسات تعليم الصغار أمور الحياة التي يتخللها مواقف اللطف والمرح كتعليم الأطفال الوضوء أو الصلاة أو فنون الرياضة والإنشاد بصورة عملية أمام أفراد الأسرة، فضلا عن المسابقات والقراءة مع الصغير ومطالعة المجلات المصورة والفضائيات الهادفة مصحوبة بالتعليقات من كافة الأطراف.
إن اقتطاع رب الأسرة جزء من وقته خاص بأسرته يطرح فيه التكلف الزائد والأوامر الصارمة كفيل بأن يدعم جسور التواصل ويملأ أركان البيت بالبهجة والسعادة، بل ويحسن من مزاجه النفسي ويحرره من ضغوط الحياة التي لا تنتهي.
أما الزوجة فنكاد نجزم بأن جُل مفاتيح السعادة الزوجية بيدها بحكم أنها ربه هذا المنزل وقيمته والمسئولة عن كل كبيرة وصغيرة فيه، وبحكم أنها رئيسة «الجبهة الداخلية» في الحياة الزوجية.
إن اعتناء الزوجة الزكية بمظهرها وجوهرها له بالغ الأثر في استقرار حياتها الزوجية، فضلا عن نظافة بيتها وإعادة ترتيبه كل فترة لإضفاء شكل جديد عليه يقتل النمطية التي تصيب الأبصار بالسآمة والملل، والزوجة الزكية تحسن السيطرة على مفاصل بيتها وضجيج صغارها خاصة وقت تواجد الزوج المتعب الذي ينشد الاسترخاء والراحة .. إن أهم ما يؤثر في الزوج ويجعله أسير الحياة الزوجية أن يحوز الاهتمام الكافي من قبل الزوجة التي تنجح في إضفاء وضع خاص للمنزل عند عودة الزوج المتعب المكدود من عمله، وهذا يشمل جهوزية الطعام الذي يحبه، واختفاء ضجيج الأطفال عبر وسائل أعدتها الزوجة مسبقا كجلوسهم حول برامج الكمبيوتر الهادفة أو الأفلام التربوية الشيقة التي تحجم من فرط حركة الصغار لحظة راحة الزوج واسترخائه.
ومن الأمور التي تروق للزوج «المبادرة بتلبية رغباته» حتى قبل أن يطلبها بلسانه، كسرعة إعداد الشاي بعد الغذاء أو تقديم الفاكهة التي يحبها أو توفير الجريدة التي يفضل قراءتها أو اختيار القنوات التي تروق له .. مما يشعره بأنه سيد مطاع وضيف مرغوب في قربه وتواجده، فالحب ما هو إلا تعبير وتطبيق، ونكران الذات في سبيل راحة المحبوب، وأحب شيء للرجل هو شعوره بأن له مكانة خاصة في قلب زوجته وحياتها، وأنها تبذل كل هذا الود والاهتمام تقديرا لجهده وامتنانا بفضله.
أما السياج الآمن الذي يجعل زوجك أسير منزله وسعيد زمانه فهو مشاركته في هواياته والأنس به في حواراته وفتح قلبه لك في جلسات ودية حميمة يبوح كلاكما بمكنونات صدره وسوانح أفكاره وآرائه وطموحاته. والنبي العدنان - بأبي هو وأمي- سابق عائشة فسبقته وسبقها، وحاورها وحاورته في جلسات ودية تمثل نموذجا راقيا لمن ينشد السعادة الزوجية.
كما أن الزوجة الزكية تعرف كيف تتحاور مع زوجها ومتى تتناقش، واللحظة التي عندها تطلب أو ترفض أو تخالف أو تعترض .. كل هذا من واقع معرفة وخبرة جيدة بمزاج زوجها ومداخل شخصيته وما يحب وما يكره.
ورغم أن العيوب البشرية تتفاوت لكن الزوج يهرب بالأخص من الزوجة الثرثارة والنكدية والجريئة في علاقاتها الاجتماعية والمبذرة والفضولية والشكاية والمغرورة والمهملة والعنيدة.
أما الزوجة فتنفر من الزوج البخيل والأناني والمتسلط والمطلاق والغضوب والمنحاز لأسرته بشكل جائر والمدخن وأسير النزوات والغيور المفرط والشكاك والمستهتر.
وكل هذه التوجيهات لا تعني بالضرورة أن يكون الرجل حبيس بيته قد سيطرت زوجته على دقائق حياته بل معناه حرص كل طرف على أن يجعل حياته الزوجية قبلته التي تصبو نفسه إليها ويجد عندها سكينته وراحته، وهذا لا يمنع إطلاقا من العلاقات الاجتماعية والأنس بالأصدقاء والأقارب والجيران، فالإنسان مخلوق اجتماعي بطبعه، لكن في الاعتدال السلامة، وما أجمل أن نعيش الحياة كاملة بوسطية لا إفراط فيها ولا تفريط، وما أبشع أن يصير البيت أتون نار تغلي فيه عواطفنا ومشاعرنا ونهرب من جحيمه بحثا عن السعادة في الطرقات.
وأخيرا ينبغي للزوجين أن يكونا على قناعة تامة بأن الهناء الأسري نعمة وفرصة ربما لا تمنحها الأقدار على الدوام ولذلك فالتمتع بهما والارتواء من نبعهما عين الكياسة، والحفاظ على أسبابهما من مقتضيات التعقل والفطنة، بل إن من دوام استمرار النعمة شكر المنعم، فليتدارك كل منهما نفسه ويصحح مساره كي تدوم أسباب الوصل، ويستمتع بمباهج حياة أسرية مستقرة بدلا من النفرة التي لا مبرر لها على الإطلاق.
فيديو قد يعجبك: