لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

بالصور مشوار الشيخ الفحام.. تاريخ طويل من العلم والنضال

02:01 م الخميس 18 سبتمبر 2014

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

حياته وبيئته ونشأته وتولِّيه المشيخة:

الإمام الشيخ الدكتور الفحام، علم من أعلام اللغة العربيَّة البارزين، وباحث من خيرة الباحثين في علوم النحو والصرف والبلاغة والأدب.

وُلِدَ شيخُنا ونشأ في الإسكندرية في 18 ربيع أول 1321هـ الموافق 18 سبتمبر 1894م، ثم حفظ القرآن الكريم وجوَّده، والتحق بمعهد الإسكندرية الديني، وكان هذا المعهد قد سبق غيرَه من المعاهد الدينية في الأخْذ بأسباب الإصلاح والتقدُّم، كما أنَّه يمتاز بضمِّ نخبةٍ من العلماء الممتازين، وقد استفاد الطالب محمد الفحام من هذا الجوِّ العلمي البديع، وظهرت مواهبه المبكِّرة، ولفتت إليه انظار أساتذته؛ فكانوا يُثنون عليه ويُشيرون إلى نبوغه، ويهدون إليه بعضَ الكتب والمؤلَّفات العلمية، وكان يعتزُّ بهذه الكتب كلَّ الاعتزاز، ويحرص على صيانتها وحِفظها والانتفاع بها، وكان يُطلِعُ بعض أصدقائه على هذه المصنَّفات التي أُهدِيت له من أساتذته، ومنهم أستاذه الشيخ عبدالهادي الضرعمي وهو بالسنة الأولى الابتدائية، وعليها إهداء بخطه، وذكر أنَّه صحب معه هذه الكتب إلى باريس.

ولقد أفاض المؤرِّخون ورجال الفكر في الحديث عن مفاخر هذا الإمام ومآثره وأعماله ومواقفه التي لا يَكاد يحصيها العدد لكثرتها، وقالوا عنه: إنَّه كان أكبر من سنِّه في شتَّى مراحل حياته، وأنا كاتب ومسجِّل هذا البحث الموجز عن حياة الإمام الدكتور الشيخ الفحام قد عاصرته ولازمته عندما كنت منوبًا للإعلام الخارجي بوزارة الأزهر - أيَّام الشيخ عبدالعزيز عيسى - سنة 1973 في حرب أكتوبر، قبل سفري للخارج، ومرافقًا له عندما زار خط بارليف بعد انتصارنا في حرب أكتوبر عام 1973، وعبرت مصر قناة السويس، وحطَّمت هذا الخطَّ الذي كانت إسرائيل وغيرها من دول الغرب تزعُم أنَّه أسطورة حربيَّة ولا تستطيع أي قوَّة في العالم أنْ تحطمه أو تقترب منه، ويجب على القارئ معرفة هذا الحاجز وممَّ يتكوَّن، وليعرف عبقرية الجندي المصري.

ذهبنا للشاطئ الآخَر من القناة في عُمق سيناء، وكنَّا بصُحبته التي شرُفنا بها، وكان مثالاً للعالم الفاضل، وملاكًا يمشي مع البشر على الأرض، وأدَّيْنا صلاة الظهر والعصر جمعًا في أحد مساجد القنطرة شرق، وكان بصحبته الشيخ محمد الذهبي ولفيفٌ من علماء الأزهر الأجلاء وكبار قادة الجيش الثالث، وسجلت الزيارة تصويرًا وكتابة، وما زالت مذكرات هذه الزيارة معي لأني غادرت مصر بعدَها بشهرٍ مبعوثًا للأزهر.

والإمام الفحام له طرائف أثناء حياته الدراسيَّة تدلُّ على نبوغه، إنَّ شيخ الأزهر سليم البشري زار معهد الاسكندرية الديني ومعه لفيف من كبار العلماء، وفي مقدمتهم الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي، شيخ معهد الاسكندرية الديني في ذلك الحين، وأصبح بعدها شيخًا للأزهر كما أشَرْنا لذلك سابقًا، وكان الوقت وقت امتحان الطلبة، فاهتزَّت هيئة لجان الامتحان الشفوي وهو طالبٌ بالسنة الثانية الابتدائية، ودخل عليهم الإمام الشيخ البشري، وسأل الطالب في باب نائب الفاعل، فقال الطالب: إنَّ بعض النحاة يسمِّيه "باب المفعول الذي لم يسمَّ فاعله"، فقال الإمام البشري: أي العناوين تفضِّل؟ فقال الطالب: أفضِّل عنوان نائب الفاعل لسببين: لأنَّه أوجر عبارةً، ولأنَّ نائب الفاعل لا يكون دائمًا هو المفعول به، كان يكون ظرفًا مثل قولك: سهرت الليلة أو مصدرًا مثل: كتبت كتابةً حسنة أو جار ومجرور مثل: نظر في الأمر، وكلَّما أفاض الإمام في الأسئلة أفاض الطالب في الإجابة، فقال الإمام: هذا طالب بالسنة الثانية الابتدائية أم بالثانوية؟! ثم قرأ له الفاتحة، ودعا له بالخير والبركة وتنبَّأ له.

وكان الطالب مولعًا بجميع المعارف والعلوم، لا باللغة العربية وحدَها وبخاصَّة علم المنطق والجغرافيا؛ فقد ألَّف رسالة في المنطق هي كتاب "الوجهات"، وهو طالبٌ بالسنة الثانية الثانوية، وقد تَمَّ طبعها فيها بعد سنة 1932، وأقبل عليها الطلبة في الإسكندرية وغيرها، وانتفع بها طلاب العالميَّة المؤقتة، وأمَّا الجغرافيا فقد بلغ من شغفه بها أنَّه كان يستأذن أستاذه في أنْ يذهب إلى حجرة الخرائط ويغلقها على نفسه طول الليل، ويضيئها بسراج من عنده، ويظلُّ يفحص ويدرس حتى الصباح، كما كان يفعل الجاحظ في مكتبات الوراقين في بغداد، وقد حبَّبته هذه الهواية في الرحلات؛ فطوَّف ما طوَّف في أرجاء العالم دارسًا وباحثًا وداعيًا إلى الله على هدى وبصيرة ويقين.

وأثناء الدراسة لاحت أمامه فرصٌ للالتحاق بدار العلوم، وكان هناك كثيرٌ من طلاب الأزهر في ذلك الحين يُفضِّلون ترك الدراسة في الأزهر؛ لصعوبة المواد وكثرتها، ويلتحقون بدار العلوم أو القضاء الشرعي؛ رغبة في التجديد، وطمعًا في مستقبل أفضل، واستشار الطالب والده، فقال له: ابني واثق في جودة رأيك وحُسن اختيارك، فاتَّجه إلى ما تراه صوابًا والله معك، أمَّا أمه فكانت تتفاءل بالأزهر فأوصَتْه بألا يترُكه، واستجاب لوصيَّة أمه، وظلَّ متمسكًا بها، فكانت فيها الخير، واصل دراسته بالقسم العالي بمشيخة علماء الإسكندرية ونال شهادة العالمية النظامية بتفوُّق، في امتحانٍ أدَّاه بالأزهر سنة 1922.

ولقد حاز الإمام الفحَّام على كثيرٍ من المعارف والعلوم، وتخرَّج في الأزهر، إلا أنه كره التقيُّد بالمناصب والوظائف الحكوميَّة، واشتغل بالتجارة، ونجح فيها نجاحًا باهرًا، ولكنَّ مواهبه العلمية من جهةٍ ونصائحه المخلصين من أصدقائه من جهةٍ أخرى حملته على أنْ يعود للحياة العلمية.

وكان الأزهر قد أعلن عن مسابقةٍ بين العلماء في العلوم الرياضية؛ ليُعيِّنهم مدرسين للرياضة بالمعاهد الدينية سنة 1926م، وامتحن وفاز بتفوُّق، وعرض عليه مفتش العلوم الرياضية بالأزهر أنْ يُعيِّنه بمعهد دمياط أو غيره من معاهد الوجه البحري، فلم يرغب إلا في معهد الإسكندرية الديني، وفعلاً عُيِّنَ في المعهد فدرس لمدَّة تسع سنوات؛ وهذا يدلُّ على تعدُّد مواهبه وتنوُّع ثقافاته، وبخاصة أنَّ العلوم الرياضية كانت جديدة على علماء الأزهر في تلك الفترة كما كان يدرس اللغة العربية لبعض الأجانب، ثم نُقل للتدريس في كلية الشريعة بالقاهرة سنة 1935؛ فدرس للطلاب علم المنطق وعلم المعاني، وفي سنة 1936 اختير إلى بعثة علميَّة في فرنسا، فرحل إليها ومعه زوجته وأولاده، وأثناء البعثة قامت الحرب العالميَّة الثانية، ولكنَّه آثَر البقاء، وتحمل متاعب الحرب وقيودها الصَّعبة في سبيل التعليم ومُواصلة الدراسة في عزيمة وتصميم، وأنجب بنتين هناك، واستطاع رغم الظُّروف المحيطة به أنْ ينال دبلوم مدرسة الليانس في باريس سنة 1941، ونال في نفس العام دبلوم اللهجات اللبنانية والسورية، ودبلوم التأهيل لتعليم اللغة الفرنسية، ونال كل ذلك من جامعة يورو كلية الآداب سنة 1941.

ثم نال درجة الدكتوراه بامتيازٍ من جامعة السوربون بفرنسا في يوليو سنة 1946، وكان موضوع الرسالة "إعداد معجم عربي - فرنسي للمصطلحات العربيَّة في علمي النحو والصرف"، وقد نالَ برسالته هذه إعجاب وتقدير الأساتذة المستشرقين حتى قال له أحدهم، وقد رأى مبلغ تمكُّنه من أسرار اللغة العربية: "ما أظنُّ أنْ قدمَ أرضَ فرنسا أعلمُ منك باللغة العربية"، ومن المعروف علميًّا وفنيًّا أنَّ ترجمة المصطلحات العلميَّة من أصعب الأمور؛ لأنَّ لكلِّ لغة خصائصها ومميزاتها التي تنمو بنموِّها على مرِّ العصور.

وعاد الشيخ الفحام من فرنسا سنة 1946م ليعمل مدرسًا بكليَّة الشريعة، ثم مدرسًا بكلية اللغة العربية للأدب المقارن، والنحو والصرف، وظلَّ يؤدِّي عملَه بها حتى رقى أستاذًا ثم عميدًا للكلية، وفي سنة 1947 طلبته لجنة المؤتمر الثقافي العربي الأوَّل، المنعقد في بيت مرى بلبنان يُمثِّل الأزهر، وقد صحبه لفيف من علماء الأزهر، وخلالها زار سوريا، وعقد صلات مودَّة بينه وبين علماء سوريا ولبنان، سنة 1942م اتَّصل به المسؤولون عن جامعة الإسكندرية، لنقله إلى كلية الآداب بها لتدريس النحو والصرف، ووعدوه بترقية ماليَّة كبيرة أكبر ممَّا يأخذه من الأزهر، وتذكر وصية أمِّه له بعدم ترك الأزهر، ولهذا اعتذر ولم يقبل النقل، فاكتفوا معه بالندب مع بقائه بالأزهر، فجمع بين الأزهر وكلية آداب إسكندرية.

في سنة 1951 زار نيجيريا، وهي أكبر دولة إسلامية في إفريقيا، بتكليفٍ من المجلس الأعلى للأزهر، فقضى بها خمسةَ أشهر، زار فيها أهمَّ مدنها، وقابل علماءها وأمرائها، واستقبلته الجماهير بحفاوةٍ منقطعة النظير، لدرجة أنَّه بكى تأثُّرًا، وفي سنة 1952 زار باكستان ممثِّلاً للأزهر في المؤتمر الإسلامي العالمي المنعقد في كراتشي، وألقى فيها بحثًا ممتازًا نال إعجاب الجميع، وفي عام 1959 صدر قرار بتعيينه عميدًا لكليَّة اللغة العربيَّة، وظلَّ يُباشر عمله في العمادة والتدريس والتوجيه والإرشاد، حتى حان موعد إحالته على المعاش 1959، فصدر قرار جمهوري بمدِّ خدمته عامًا، والملاحظ أنَّ كلَّ هذه الأعمال الجليلة والجهود العظيمة في خدمة الإسلام والمسلمين والأزهر الشريف كانت قبل تولِّيه المشيخة، وأنَّه لم يكن رجلاً واحدًا، وإنما كان أمَّة في رجل.

تولِّيه مشيخة الأزهر:

ولقد ارتقى فضيلة الدكتور محمد الفحام كرسي مشيخة الأزهر الشريف بعد هذه الحياة الحافلة، وصدَر القرار الجمهوري في 5 رجب 1486هـ الموافق 17 سبتمبر سنة 1969 بتعيين فضيلته شيخًا للأزهر مدى الحياة، فنهض بأعباء المشيخة وسط ظروف قاسية، وأمواج متلاطمة، وبين تيَّارات عنيفة، فقاد السفينة بحكمة واقتدار، وفي هدوء واتِّزان، وفي هذه الأثناء ظهرت حركات التبشير عاتية عنيفة قويَّة في إفريقيا وآسيا، وقد استطاع الإمام أنْ يُوائم بين واجبه الديني بوصفه إمامًا أكبر للمسلمين، وواجبه الوطني في وحدة الصف ولم الشمل، وتأمين الجبهة الداخلية، وسنشير إلى ذلك فيما بعدُ.

وفي سنة 1970 بعد تولِّيه لمشيخة الأزهر زار السودان فقُوبل بحفاوة منقطعة النظير، وفي السنة نفسها تلقَّى دعوةً من علماء المسلمين في الاتحاد السوفيتي، ورئيسهم بابا خانوف لزيارة الاتحاد السوفييتي، فلبَّى الدعوة، وزار أيضًا جمهورية "أوزباكستان، وطشقند، وكاجيكستان، وسمرقند، وموسكو، وليننجراد، وعقد أوثق الصلات مع المسلمين، وفي سنة 1971 زار إيران، والتقى بعلماء الشيعة وأعلامهم، واستقبَلوه بحفاوةٍ تتَّفق ومكانته ومنزلته، واتَّفقوا جميعًا على العمل في سبيل الوحدة الإسلامية وتحقيقها.

وكانت شخصيَّة الإمام الدكتور محمد الفحام في عدَّة مناهج التزم بها، وساعدته مواهبه الفطرية على ذلك؛ منها: علمه الغزير، وتجاربه العديدة، ودرايته بالعوامل الاقتصادية والطبائع البشرية أثناء اشتغاله بالتجارة ورحلاته المتنوِّعة، وصداقات بزعماء العالم الإسلامي، وعمله بمجمع البحوث الإسلامية ومجمع اللغة العربية.

وفي سنة 1972م تمَّ انتخابه عضوًا بمجمع اللغة العربيَّة، وعمل المجمع له احتفالاً كبيرًا مرحبًا به، وخطب الخطباء وتحدَّث المتحدِّثون، وأشادوا بالأزهر ورجاله، وأنَّه هو الطود الأشم للإسلام والمسلمين.. ثم ألقى الإمام الفحام كلمةً رائعة نقتطف منها: "إنَّ اللغة العربية دخلت في صِراع مرير مع لغاتٍ أخرى كثيرة، فكُتب لها النصر دائمًا بفضل القُرآن الكريم، والسُّنَّة النبويَّة، والحضارة الإسلاميَّة، وظلَّت اللغة قويَّة فتيَّة على مرِّ العصور، وإنَّ لها قدرًا ابتُلِيت به هي وأهلها بأزماتٍ استعماريَّة قاتلة: حين تسلَّط التتار على العراق، والصليبيُّون على الشام والفرنجة على الأندلس، والأوروبيون على الوطن العربي، ولكنَّها لم تستكنَّ، وقاومت مقاومةً شديدة، فلم تذبل أو تندثر كما حدث للغات السامية واليونانية القديمة.. إلخ، ثم تحدث عن العامية وهاجم أنصارها بالبرهان والمنطق.

وأمَّا موقفه من الفتنة التبشيريَّة التي أشرنا إليها في بداية اشتعالها في عهد الإمام الشيخ "حسن مأمون" وأخمدت نارها بفضل جهود الإمام الفحام، وألقى بكلِّ الكتب السماويَّة البعيدة عن التحريف، كما اعترف بجميع الرُّسل والأنبياء السابقين، وأنَّ المسلم لا يكون مسلمًا إلا إذا آمَن بكلِّ ذلك، وأنَّ الإسلام لما دخَل مصر عامل سكانها المسيحيين أكرم معاملة، فجعل لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وظلَّ الأقباط يعيشون مع المسلمين بحريَّةٍ في دور عباداتهم، وكوَّنوا ثرواتهم، وشيَّدوا كنائسهم ومدارسهم الخاصَّة، ولم يتعرَّض لهم أحد من المسلمين بسوء.

وأشار الشيخ الفحام في بعض أحاديثه وخطبه لإخماد هذه الفتنة، وأخذ المسلمين والنصارى، وأمثلة ذلك كثيرة، فعندما غزا نابليون مصر قاومه الأقباط مع المسلمين، وفي ثورة 1919 اتَّحد الاقباط مع المسلمين ضدَّ الاستعمار البريطاني، وخطب القساوسة على منبر الأزهر مُقدِّمين دماءهم.

وفي حرب 1967 احتلت إسرائيل سيناء، وبدأ الاستعمار يخطِّط لإضعاف الجبهة الداخليَّة في مصر، وذلك بإشعال نار الفتنة، وكان مصدر هذه الفتنة أنْ قامت مؤسسةٌ مريبة في بيروت فأصدرت سلسلتين من الكتب التبشيرية: إحداهما بعنوان "في الحوار المسيحي الإسلامي"، والثاني بعنوان "دراسات قرآنية"، وكان الهدف من إصدار هاتين السلسلتين إحداث فتنة طائشة عمياء، وهنا عقد الإمام الفحام جلسة مجمع البحوث الإسلامية في مارس 1971، واختار مَن يردُّ على تلك الشرذمة وكتبهم التبشيرية، وبقوَّة شخصية الإمام، وسداد رأيه، وقوَّة منطقه وحجته، استطاع القضاء على هذه الفتنة، التي أوشكت أنْ تُمزِّق الأمَّة، وبهذا سلمت الجبهة الداخليَّة من الانهيار، وعاد الشعب المصري إلى وحدته، وبهذا أتاح الله لجيش مصر أنْ يعبرَ القناة، ويحطم خطَّ بارليف بمعاونة المسلمين والنصارى، وهذه وقفات يجب أنْ يذكرها التاريخ.

آثاره العلمية وتأثيره:

كان الإمام الدكتور محمد الفحام واسعَ المعرفة، ذا علم غزير، وخلق كريم، وإيمان عميق، كلُّ مَن عرَفه لا يستطيع أنْ يبتعد عنه أو يقطع صلته به؛ فهو ودود صَدوق، فمَن صادقه أحبَّه وازداد حبًّا له يومًا بعد يوم؛ لأنَّه خُلِقَ بطبعه مفطورًا على حبِّ العلم وتحصيله، ولم يخلد للراحة أبدًا أو السكون، بل واصل العمل، وكانت شهرته قد ذاعت، فأقبَلتْ عليه الهيئات العلميَّة في الداخل والخارج؛ ففي سنة 1961 حضر وزير أوقاف باكستان إلى القاهرة، واجتمع بلفيفٍ من العلماء في مكتب وزير أوقاف مصر؛ لاختيار أحدهم القيام بوضع منهج تدريس اللغة العربية والعلوم الإسلامية بأكاديمية العلوم في باكستان، وكان من بينهم الدكتور محمد الفحام، وبعد يومٍ اتَّصلت به السفارة الباكستانية لمقابلة الوزير الباكستاني؛ حيث تم اختياره لهذه المهمَّة، وزير أوقاف باكستان بنفسه في بيته احترامًا وتقديرًا، وقال: "إنَّ العلماء يجب أنْ يُؤتَى إليهم، ولا يأتون لأحد"، واخبره الوزير باختياره للسفر إلى باكستان لوضع المناهج المطلوبة، فقضى هناك ستة أشهر، أتَمَّ فيها مهمَّته، وأدَّى واجبه خير أداء، وانتهز الفرصة فزار مدن الهند، وقابل علماءها والهيئات الإسلاميَّة فيها، ووثَّق الروابط بينها وبين الأزهر الشريف.

وعندما تريد أنْ تعرض جهوده في خدمته للغته ودينه ولا تدري بأيِّها تبدأ؛ هل برحلاته وأسفاره أم ببحوثه وتخصُّصاته، أم الوظائف التي شغلها والشهادات التي حصل عليها، والدعوات التي وُجِّهَتْ إليه من شتَّى بقاع الأرض وأشَرْنا إلى بعضٍ منها، فقد طوَّف في شتَّى بلاد الله الواسعة، وأفاد واستفاد من علمائها، فقد زار باكستان والهند وإندونيسيا، وكل ولايات ودول الاتِّحاد السوفيتي ونيجريا وإسبانيا وموريتانيا واليابان وإيران وليبيا والجزائر، وشاهَد الآثار العربيَّة في مدريد، وطليطة وقرطبة، ثم السعودية، وحجَّ ست مرَّات، وهذه الأسفار قد نمت معارفه، وأنضجت تجاربه، وزادته بسطةً في العلم والفهم، وجعلت منه فارسًا لا يُجارَى، ورائدًا لا يُبارَى في الدفع عن دينه.

ونسوق دليلاً على عظمة هذا الإمام وتقدير العالم له؛ ففي سنة 1963م زار موريتانيا ممثِّلاً للأزهر لدراسة أحوال المسلمين فيها، والوقوف على مدى حاجتهم إلى المدرسين من علماء الأزهر، والمنح المقرَّرة لهم من الأزهر، والمعروف أنَّ علماء موريتانيا يتحدَّثون اللغة العربية الفصحى، ويحفظون كثيرًا من متون اللغة والشعر والنثر... إلخ، ومن حبِّ الموريتانيين للشيخ الفحام منحوه لقب مواطن موريتاني وسجَّلوه، ووافق عليه وزير الداخلية بلقب مواطن موريتاني رسمي.

وفي سنة 1964م كلَّفه الأزهر الشريف بالاشتراك في المؤتمر الإسلامي في باندونج بإندونيسيا، وتعرَّف إلى معظم زعماء وقادة العالم الإسلامي، وبفضله انتشر الإسلام في اليابان.

إنَّ هذه السطور غير كافيةٍ للحديث عن الإمام الدكتور الفحام لتتناول طرفًا واحدًا من مسيرته وآثاره العلمية، فقد تقلَّد عمادة كلية اللغة العربية، وشيخًا للأزهر، وتدريسه للمنطق وعلم المعاني بكلية الشريعة، وأستاذًا للغة العربية في الطليعة وعضوًا في مجمع البحوث الإسلامية، ورحلاته التي لا تُحصى إلى العالم، وأمَّا تأثيره في التلاميذ ونحن كنَّا في حاجة إلى تسجيل بعضهم؛ فهم كثيرون فمنهم مَن ينتمي للأزهر ومنهم مَن ينتمي لغيره.

تأليفه ومصنَّفاته:

للإمام الدكتور الفحام مصنَّفات لا تُحصى، خاصَّة أنه تتلمذ على يديه رجالٌ أعلامٌ أخذوا علومهم منه، وأسقاهم من ينابيع معرفته، هؤلاء الأعلام قد ألَّفوا مؤلَّفات جليلة وعظيمة، في الأزهر عددهم لا يحصى، والباقي في جامعتي الإسكندرية والقاهرة، فكلُّهم انتفعوا بعلمه وتخلَّقوا بأخلاقه، ومن العلماء الذين جلسوا منه مجلس التلميذ من الأستاذ، وفي رحلاته الكثيرة التي سبق وذكرناها فلقد خلف رجالاً وعلمهم، وأسسهم على كلِّ ما وهبه الله من علم نافع ومفيد، فلم يُؤلف كتبًا كما فعل كثيرٌ من الأئمَّة قبله، لكن كانت له أبحاث ومحاضرات وإذاعات ولو جمعنا كلَّ هذه المصنفات لبلغت عدَّة مجلدات، حافلة بالعلم الغزير، والتفكير السديد والتوجيه الرشيد، ومن أهمِّ هذه المصنفات:

1- رسالة الموجهات في المنطق، ألَّفه وهو طالب وطبعت كثيرًا، واستفاد منها كثيرٌ؛ طلابًا وعلماء.

2- "سيبويه"، هذا البحث مجتمع ناقش فيه آراء سيبويه، وما لاحظ عليه النحويون، ومناقشة الدارس المتمكِّن الذي يتحرَّى الحقائق، دون ميلٍ أو عصبية.

3- مقالات عديدة ومتنوعة، نشرها الإمام في "مجلة المعرفة" التي كانت تصدرُ بالعربية والفرنسية في باريس، وفي "مجلة منبر الإسلام"، و"مجلة الأزهر"، و"مجمع اللغة العربية" وغيرها من المجلات.

4- "المسلمون واسترداد بيت المقدس"، أصدرته الأمانة العامة للبحوث الإسلامية سنة 1970.

5- "أثر الإسلام في توجيه القادة الإداريين" محاضرة قيِّمة ألقاها في معهد الدراسات العليا لضباط الشرطة بالزمالك، وهذه المحاضرة صالحةٌ لأن تكون نواة كتاب جيِّد في التنظيم الإداري كما رسمه الإسلام.

هذا إلى جانب عددٍ كبير من الابحاث والدراسات المهمة التي كتبها وما تزال مخطوطة، ونسألُ الله أنْ يُلهم المسؤولين من الباحثين لجمعِها في كتاب أو عدَّة كتب؛ لينتفع بها طلاب العلم والمعرفة.

وفاتـــــه:

كان الإمام الدكتور محمد الفحام من ذوي الأدب الرفيع والخلق الكريم، والإيمان العميق، ولو قدر لإنسان إنْ يسلم من عداوة أحدٍ لكان هذا الإنسان هو الدكتور الفحام، وهذا ما لمسه الناس فيه، وكان في إيمانه العميق يعلم أنَّ الحياء شعبه من الإيمان، فيتمسَّك به خاصَّة في أماكن ممكن أنْ يطيش فيها حلم الحليم؛ فكان يدفع السيئة بالحسنة، ويُقابل العدوان بالإحسان، ويُعالج المشكلات بالرفق واللين، مع الهدوء والاتِّزان، وكان دائمًا يختار الأيسر، فعاش في حياته في جوٍّ من المودَّة والرِّفق.

ولقد وصفه أحد أصدقائه قائلاً: إنَّه رجلٌ ذو نفس لوَّامة يُحاسب نفسه ويُعاقبها، ويحاذر من إساءة الناس ويتسامحُ فيها، ليس عن ضعف، وإنما هي نفس المؤمن.

وكان في غربته مثالاً لكلِّ مصري يحبُّ مصر، وكل عربي، وكل مسلم، وكل أزهري، وظلَّ يكافح ويناضل، ويكتب ويتحدث ويحاضر، وهو في أشدِّ حالات المرض والضعف، حتى وافته منيته، وخرجت روحه إلى بارئها في عام 1980، وشُيِّعَ جثمانه الطاهر إلى مثواه الأخير في الدنيا، في موكبٍ مهيب، ودُفن بالإسكندرية موطن رأسه، البلد التي أحبَّها ولم يفارقها طيلة حياته.

المصدر: موقع مشيخة الأزهر

فيديو قد يعجبك:

لا توجد نتائج

إعلان

إعلان