ما حكم الشرع فى التلفظ بعبارة: «اللي عايزه ربنا يكون»؟!
اعتدنا في مجتمعنا المصري على سماع تعبيرات كثيرة شائعة خلال الحوارات والمحادثات بين الناس كعبارة: «اللي عايزه ربنا يكون»، لكن بعض الإخوة المتدينين قال: إن هذه العبارة لا يجوز شرعا التلفظ بها؛ لأنه لا يليق بجلال الله سبحانه وتعالى أن يوصف بكلمة «عايز». فما حقيقة هذا الأمر؟ وما الحكم الشرعي الصحيح؟
تجيب لجنة الفتوى بدار الإفتاء المصرية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد: فالجملة المذكورة ليست من اللغة العربية الفصحى، وإنما هي عربية محرفة للهجة العامية المصرية، وأصل كلمة «عايز» أو «عاوز» في اللغة العربية هو المادة: «عَوَزَ» وهي تدل على الفقر والاحتياج، يقول العلامة ابن فارس في معجم مقاييس اللغة [4/ 186، ط. دار الفكر]: «الْعَيْنُ وَالْوَاوُ وَالزَّاءُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تَدُلُّ عَلَى سُوءِ حَالٍ. مِنْ ذَلِكَ الْعَوَز: أَنْ يُعْوِزَ الْإِنْسَانَ الشَّيْءُ الَّذِي هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، يَرُومُهُ وَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ».
ويقول الجوهري في الصحاح [3/ 888، ط. دار العلم للملايين]: [وأعْوَزَهُ الشيء، إذا احتاج إليه فلم يقدر عليه. والإعوازُ: الفقر. والمُعْوِزُ: الفقير. وعَوِزَ الرجل وأَعْوَزَ، أي افتقر. وأَعْوَزَهُ الدهر، أي أحوجه.».
وفي المصباح المنير للفيومي [2/ 437، ط. المكتبة العلمية]: «عوز الشيء عوزا من باب تعب: عز فلم يوجد. وعزت الشيء أعوزه من باب قال: احتجت إليه فلم أجده. وأعوزني المطلوب: مثل أعجزني وزنا ومعنى. وأعوز الرجل إعوازا: افتقر. وأعوزه الدهر: أفقره. قال أبو زيد: أعوز وأحوج وأعدم وهو الفقير الذي لا شيء له».
فالحاصل أن الأصل اللغوي لكلمة «عايز أو عاوز» يتضمن معنى الفقر والاحتياج والعجز عن نيل المطلوب، فالكلمة بمجرد تركيبتها اللغوية تدل على سوء حال كما قال ابن فارس.
وقد سجل القرآن الكريم على بعض اليهود جريمة التطاول على الذات الإلهية ووصفهم لله -سبحانه وتعالى عما يقولون- بالفقر والاحتياج، كما وصفوه بالشح والبخل لعنهم الله! قال عز وجل: {لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}.. [آل عمران : 181]، ويقول عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}.. [المائدة: 64]، وذلك إنما قالوه على سبيل الاستهزاء أو على سبيل المناقضة والإلزام للطعن والتشكيك في نبوة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو دأبهم في الانتقاص من الأنبياء وسفك دمائهم والتشكيك في أصول الديانات وإدخال التحريف عليها؛ لتضليل الناس وصدهم عن سبيل الله.
ومن حيث توعد رب العالمين هؤلاء اليهود بعذاب الحريق؛ لما وصفوه به من الفقر والاحتياج -تعالى وتقدس سبحانه عما يقولون- وإن لم تكن هذه هي عقيدتهم بالفعل، وإنما قالوه على سبيل السخرية أو الطعن في الدين؛ دل هذا الوعيد على حرمانية التلفظ بمثل هذا القول أو ما يؤدي إليه، بل قد ثبت النهي أيضا عن التلفظ بكلمة يمكن حملها على معنى قبيح بعد أن استعملها اليهود للانتقاص من قدر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما جاء في نهي الله تعالى المؤمنين عن كلمة: «راعنا» التي استعملها اليهود لسب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والاستهزاء به؛ وذلك لأن هذه الكلمة تحتمل أن تكون مشتقة من الرعاية والنظر، وتحتمل أن تشتق من
الرعونة وهو المعنى القبيح الذي قصده اليهود كما قال بعض المفسرين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.. [البقرة : 104]، وقال عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}.. [النساء: 46].
يقول الإمام النسفي في تفسيره [مدارك التنزيل وحقائق التأويل: 1/ 362، ط. دار الكلم الطيب]: «قوله: {وَرَاعِنَا} يحتمل راعنا نكلمك، أي ارقبنا وانتظرنا، ويحتمل سبه كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها وهي راعنا فكانوا سخرية بالدين وهزؤا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام. ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ فَتْلًا بها وتحريفًا أي يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون راعنا موضع انظرنا، وغير مسمع موضع: لا سمعت مكروهًا، أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقًا ﴿وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾: هو قولهم لو كان نبيًّا حقًّا لأخبر بما نعتقد فيه».
ويقول الإمام الرازي في تفسيره شارحا للأوجه المحتملة للنهي عن هذه الكلمة [3/ 634]: «جمهور المفسرين على أنه تعالى إنما منع من قوله: ﴿رَاعِنَا﴾ لاشتمالها على نوع مفسدة ثم ذكروا فيه وجوها: أحدها: كان المسلمون يقولون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا تلا عليهم شيئا من العلم: راعنا يا رسول الله، واليهود كانت لهم كلمة عبرانية يتسابون بها تشبه هذه الكلمة وهي «راعينا» ومعناها: اسمع لا سمعت، فلما سمعوا المؤمنين يقولون: راعنا افترضوه وخاطبوا به النبي وهم يعنون تلك المسبة، فنهي المؤمنون عنها وأمروا بلفظة أخرى وهي قوله: ﴿انْظُرْنَا﴾، ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى في سورة النساء: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ}.. [النساء : 46].
وروي أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله لأضربن عنقه، فقالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت هذه الآية، وثانيها: قال قطرب: هذه الكلمة وإن كانت صحيحة المعنى إلا أن أهل الحجاز ما كانوا يقولونها إلا عند الهزء والسخرية، فلا جرم نهى الله عنها، وثالثها: أن اليهود كانوا يقولون: راعينا أي: أنت راعي غنمنا، فنهاهم الله عنها، ورابعها: أن قوله: «راعنا» مفاعلة من الرعي بين اثنين، فكان هذا اللفظ موهما للمساواة بين المخاطبين، كأنهم قالوا: أرعنا سمعك لنرعيك أسماعنا، فنهاهم الله تعالى عنه وبين أنه لا بد من تعظيم الرسول -عليه السلام- في المخاطبة على ما قال: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}.. [النور : 63]. وخامسها: أن قوله: «راعنا» خطاب مع الاستعلاء كأنه يقول: راع كلامي ولا تغفل عنه ولا تشتغل بغيره، وليس في «انظرنا» إلا سؤال الانتظار، كأنهم قالوا له: توقف في كلامك وبيانك مقدار ما نصل إلى فهمه، وسادسها: أن قوله: «راعنا» على وزن عاطنا من المعاطاة، ورامنا من المراماة، ثم إنهم قلبوا هذه النون إلى النون الأصلية وجعلوها كلمة مشتقة من الرعونة وهي الحمق، فالراعن اسم فاعل من الرعونة، فيحتمل أنهم أرادوا به المصدر. كقولهم: عياذا بك، أي أعوذ عياذا بك، فقولهم: راعنا: أي فعلت رعونة.
ويحتمل أنهم أرادوا به: صرت راعنا، أي صرت ذا رعونة، فلما قصدوا هذه الوجوه الفاسدة لا جرم نهى الله تعالى عن هذه الكلمة. وسابعها: أن يكون المراد لا تقولوا قولا راعنا، أي: قولا منسوبا إلى الرعونة بمعنى راعن: كتامر ولابن».
وعلى هذا فكلمة «عايز» لما كانت تتضمن في دلالتها نسبة النقص والفقر لله سبحانه وتعالى بمقتضى مصدرها اللغوي؛ كان استعمالها في الحديث عن الذات الإلهية محرما قد يوقع في الكفر والعياذ بالله؛ لتضمن ذلك نسبة النقص للذات الإلهية وترتب اللعن والوعيد الشديد على ذلك، وللتكذيب بكل الآيات التي دلت على الغنى المطلق له سبحانه وتعالى عن كل ما سواه كقوله عز وجل: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.. [آل عمران : 97]، ومهما قيل بأن غلبة استعمال العوام والجهلة لهذه الكلمة نقلتها من الدلالة على معنى الفقر والاحتياج وطلب الشيء مع العجز عنه إلى الدلالة على مجرد طلب الشيء وإرادته كما يتبادر إلى ذهن عوام الناس اليوم؛ فهذا لا يُسوِّغ إطلاق هذا الوصف في حق الله سبحانه وتعالى؛ لاحتماله الدلالة بأصل وضعه على معنى لا يليق بذاته عز وجل ويتنافى مع عقائد الإسلام بالكلية، وإذا كان قد ورد النهي عن التلفظ بكلمة «راعنا» لاشتراك عدة معانٍ بعضها قبيح في هذا اللفظ فمن باب أولى يكون النهي أوكد عن ما كان في أصله اللغوي يستلزم القبح والنقص.
لكن المختار في ظل تفشي الجهل هو الإفتاء بالكراهة الشديدة للتلفظ بهذه الكلمة؛ نظرا لعموم الابتلاء بجهل العوام بأصول الكلمات العربية؛ واعتيادهم التلفظ بمثل هذه التعبيرات وسبق اللسان بها دون أن يتبادر المعنى القبيح إلى الأذهان، مما يدل على نقل الكلمة بالعرف الخاص بالمصريين في لهجتهم العربية عن معناها الأصلي إلى معنى آخر لا يتضمن النقص، كما نقل العرف اللغوي العام كلمة دابة من الدلالة على كل ما يدب على الأرض بما في ذلك الإنسان إلى الدلالة على ما يدب على الأرض من ذوات الأربع، والقاعدة الشرعية فيما تعم به البلوى أن: «ما عمت بَلِيَّتُهُ خَفَّتْ قَضِيَّتُهُ» [الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص84، ط. دار الكتب العلمية]، وكما قال صاحب [تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية: 3/ 182، ومعه أنوار البروق للقرافي وحاشية ابن الشاط، ط. عالم الكتب]: «القاعدة في الملة السمحة تخفيف في كل ما عمت به البلوى والتشديد فيما لم تعم البلوى به».
وبناء على ما سبق: فإنه لا يجوز شرعا التلفظ بعبارة: «اللي عايزه ربنا يكون» ولا وصف الله عز وجل بكلمة «عايز» أو «عاوز»، لا سيما إذا كان من يتلفظ بهذه الكلمات يدرك أصل معناها اللغوي، إلا إذا غلبه لسانه، فإن استعملت هذه الكلمات في سياق يشعر بالإساءة أو الإخلال بتعظيم الله سبحانه وتعالى حرم الاستعمال ووجب الإنكار على من يستعملها، أما إذا لم يشعر استعمالها بشيء من هذا ولا تبادر إلى الذهن فالأمر على الكراهة الشديدة.
فينبغي على العلماء والدعاة وكل من وقف على حكم هذه المسألة توعية الناس بالحكمة والموعظة الحسنة ونصحهم بترك استعمال تلك الألفاظ في حق الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}.. [الحج : 30].
والله تعالى أعلم.
فيديو قد يعجبك: