حياة "عمر الشريف".. "زي الأفلام"
كتبت-رنا الجميعي:
يقولها صراحة إن معظم الأفلام التي اشترك بها "زبالة" هكذا، أما الأعمال التي اعتد بها فهي قليلة تُحصى على الأصابع، لذا كانت أدواره الأخيرة نادرة، تمر السنون ولا يقوم سوى بعمل أو اثنين، أراد أن يُكّرم حياته في خواتيمها، فقام بأدوار تُشبهه، تُجيب عن أسئلة الحيرة التي تدور في فلك وجوده، وتتمم سلامه الداخلي، حتى لقي "عمر الشريف" ربه بنفس سمحة، وناسيًا لما قد مضى.
السيد ابراهيم وزهور القرآن : دَيْنُه القلب
قام "عمر الشريف" بدور "السيد ابراهيم" في ذلك الفيلم الفرنسي، عام 2003، عن رواية بنفس الاسم، تحكي قصة حقيقية للشيخ "جاد القرآني"، كان السيد ابراهيم مسلمًا صوفيًا، يعيش بشارع باريسي يُسمى "أزرق" وما هو بأزرق، التقى بفتى يهودي عمره ثلاثة عشر عامًا يُدعى "موسى"، بقميصه الأحمر كان الفتى يبتاع متعلقات المنزل من البقال المُجاور الذي يملكه "ابراهيم"، ويقوم بسرقة أشياء صغيرة لقلة ماله، يضعها بجيبه، حاسبًا أن لن يره أحد.
صفاء المُعاملة التي يعاملها "ابراهيم" للصبي تخلق بينهم علاقة رقيقة، تُبنى على السماحة لا البغض، بنعومة صوت "عمر الشريف" يُحدثه عن قرآنه، يُفسح لتساؤلات داخل الفتى، استفهامات لا يُجب عنها والده الأناني، بينما يرد على حيرته الجار الطيب، هو الأقرب إليه، ذلك الهدوء أقرب لحال "الشريف" في كبره، تصالحه مع نفسه الذي يعترف به خلال اللقاءات التليفزيونية، والخلط الموجود بشخصية الصوفي الشارب للخمر، أشبه له، الفنان الذي يحمل تناقضه داخله، بين حبه وأنانيته، وحدته والتوق لأجواء العائلة.
ارتحل "عمر" لبلدان عدة، لم يستقر بمكان قط، كان سكنه مؤقتًا للأبد، وصار بيته عناوين الفنادق، بين باريس والقاهرة عاش حياته في مرحلتها الأخيرة، حتى اضطره المرض لسُكنى مصحة كبار السن، السفر الذي لم يقتطع من سَيْر حياته، أنهى بها مسيو ابراهيم رحلته، ارتحل مع "موسى" إلى بلدته بتركيا، الطريق الذي يجب أن يمر به للإنسان حتى النهاية، مر بها كلاهما "ابراهيم" و"عمر"، ومع وصول الصوفي بلدته كان نهاية أجله، قال مسيو ابراهيم لموسى أثناء السفر: أتتخيل الرحلة التي قطعتها أنت من التراب إلي اليوم؟ فيما بعد حين تكون قد تخطيت حالة الانسان، ستصبح ملاكًا وستكون قد فرغت من الأرض وما عليها".
الدين كان أحد أركان حياة "عمر الشريف"، برغبته أم لا، مع بداية حياته التي كان بها يهوديًا ، ثم تحوله للإسلام للزواج من فاتن حمامة، وهو ما جعل الدين مهمًا بسيرة "الشريف"، لم يستنكر التعامل مع أحد بسبب دينه، كان من البساطة ليتعامل حتى مع اليهود بهوليود، يقول: هوليود كان كل اللي ماسكها يهود، لذا كان من الطبيعي بالنسبة له أن تكن له علاقات معهم حتى بأكثر الأوقات نعرة عصبية، أيام الرئيس جمال عبدالناصر، يسأله أحد المحاورين عام 2008 عن معتقداته الآن، فيقول: "أنا أعتقد في وجود الله وفي الدين، لكن ديني لنفسي، الشئ العجيب هو أن اليهود يؤمنون بدخول الجنة وحدهم، كذلك المسيحيون والمسلمون، ولكني أتسائل لماذا يخلق الله إنسان لا يستطيع دخول الجنة، هذا سخيف" ثم ينظر لأعلى متأسفًا لله، ويقول ضاحكًا: "أقصد أن الناس من جعلوا ذلك سخيف".
المُسافر للأبد
يُقابلنا "عمر الشريف" بصوته بادئًا الفيلم المصري، الذي عرض عام 2010، يحكي أن في حياته كلها لا يتذكر سوى ثلاثة أيام، رعونة وطيش المُسافر "حسن"، الذي قام بدوره "خالد النبوي"، يشهد عليها طيات الحكاية، من اغتصاب حبيبته، وزواجها من آخر بنفس الليلة، لتتشابك الخيوط، لا يعلم بعدها حين يرى ابنتها "نادية" هل هي ابنته أم لا، لكنها لا تُشبهه، الذي يُقارب روحه هو أخيها "علي" الذي لا يعلم عنه سوى يوم انتحاره، تفاصيل ملامحه التي تسردها عليه "نادية" تشبهه، الجرأة والطيش التى أودت بحياته، هي ذاتها التي عنونت الحيرة شارة لـ"حسن".
اليوم الثالث بحياة "حسن"، قام بدوره "الشريف"، بيته الذي نلتقيه بالدقائق الأخيرة يملؤه الحمام، صغر المساحة التي عاش بها، وبكائه حين يُضيّع منه حفيده، الذي لم يتأكد تمامًا بعد أنه من صلبه هو، لكن معظم الدلائل تؤكد على ذلك، تمسكه بالحفيد، هو تمسك بالحياة والمستقبل، الشيخ الذي أصبح عليه مازال به من الجرأة أكبر مما عليه حفيده، حياته التي لا يتذكر منها سوى ثلاثة أيام، الندم الذي لا يعرفه، تحدث عنه "الشريف"، في أحد الحوارات قائلًا :لكني لست نادماً على شيء، سواء في مهنتي أو في حياتي. بل أنني لا أفهم معنى كلمة "ندم"، أعرف أني لحظة فعلتُ ذلك كان عليّ أن أفعل، هذا كل شيء، ثم إني لا أحبّ النظر إلى الوراء. يبقى لنا مع كل يوم يمضي القليل لنعيشه.
روك القصبة : الشجرة الكبيرة التي وقعت إحدى ثمارها
آخر فيلم عُرض لعمر الشريف، وهو مغربي عُرض عام 2013، يطيف شبحه الأبيض بأول الفيلم، مَوْلى "عمر" قد مات والحكاية عن الثلاثة أيام التي يودعوه فيها، لتظهر الخلافات العائلية بين الثلاث أخوات ووالدتهم، الأوجاع التي تم دفنها بوجود الأب، ينبشون بها الآن ويُدفن هو، رغم الحزن الذي غلّف الأجواء، وغياب الوالد، فإن ذكره ووجوده كان أكبر، سيرته المفتوحة للومه بدواخل النفوس، بدأت تطوف على السطح، كونه السبب في انتحار ابنته الرابعة، لكن "عمر" الذي نشاهده بالفيلم، الشبح المرتدي الأبيض، لا نراه عابسًا كما يحكون عن صرامته، لكنه ضحوك، يجلس برفقة حفيده، يحكي له عن أول شجرة أنبتت بالدار.
حدود قسوته كان لها آخر، دفات الأسرار تُفتح، والأسباب تُعرف، فانتحار الابنة يأتي بعد رفضه لها للارتباط بابن خادمة البيت، ومع فتح الوصية تعلم الأسرة أن الابن هو ابن مولى "حسن"، تُشبه الحكاية حياة الفنان الذي أنكر ابن ثان له، رغم اعترافه بأنه والده، لكنه مازال يراها نزوة عابرة، وأنه لا يحق لذلك الابن الاستمتاع بأبوته، وهو ما قاله صراحة بأحد اللقاءات التليفزيونية، رغم ترحال "الشريف" فإن العائلة مقدسة له، وأوقاته الأخيرة قبل النسيان قضاها بين أحفاده الثلاثة، ينتهي الفيلم بارتباط الأسرة مجددًا، وابتسامة عريضة من "حسن"، الذي يتذكر الحكمة التي قالتها له والدته منذ زمن : "لا تجعل امرأة تبكي لأن الله يعد دموعها".
فيديو قد يعجبك: