إعلان

التطوير يهدد "الفخارين" للمرة الثانية.. تاريخ 100 عام في مهب الريح

04:26 م الأربعاء 09 أغسطس 2023

قرية الفخارين

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

تقرير- مارينا ميلاد:

تهب الأتربة على أسطح وقباب قرية الفخارين بالفسطاط. تلك الأتربة الآتية من أعمال التطوير الجارية بالمنطقة القديمة باتت تحمل معها قلقًا وتهديدًا للموجودين بالقرية، وعلى رأسهم مدرسة عابدين، الأقدم والأهم بهذا المكان.

فقبل أيام، تلقت مدرسة عابدين، كما أعلنت، قراراً شفهيًا بإخلاء المبني الرئيسي للمدرسة والورشة بجانب مركز درب 1718 الثقافي المجاور لها بهدف توسيع الشارع المؤدي إلى متحف الحضارة. ولم يصحب ذلك قرار رسمي – حتى الآن.

لكن الانتظار ربما يكون أسوأ. فهو يربك محمد عابدين (مالك المدرسة). فهذه الأيام، خَفض الرجل العمالة، كما رفض طلبات بكميات ضخمة لعدم ضمانه الالتزام بها. وبالنسبة له، فالأكثر مرارة من كل ذلك، هو أن سيرة عائلته التي تعمل في هذه الصناعة منذ نحو مائة عام سوف تنتهي. فيقول إن "الأمر كله بمثابة صدمة".


قبل أكثر من شهرين– بدأ أول أنباء احتمالية هدم جزء من قرية الفخارين يصل إلى مسامع محمد عابدين. لكنه لم يصدقه، فالكوبري الجديد بعيد عنهم. إذن، فلا شواهد على ذلك، ولا كلام واضحاً، كما يرى.

أما الآن - ووسط الغبار المختلط بدرجات الحرارة المرتفعة، وأصوات الدق والحفر حوله، يجلس "محمد" (47 سنة) ليفكر فيما لم يكن يتوقعه، ويتذكر معه الضربة الأولى القاسمة للعائلة عام 1999، والتي يخشى أن تتكرر مرة أخرى.

كان "محمد" شابًا تخرج حديثًا من كلية التجارة، حين وجد قوات الأمن تحاصر القرية و"البلدوزرات" تتحرك لتزيل مباني وورشًا في مكان القرية الحالي، بما فيها ما يخص عائلته. ذلك بعد قرار المحافظة بنقلهم، حيث منطقة "شق الثعبان"، بهدف تطوير منطقة الفسطاط والحد من التلوث الناتج عن حرق الفخار بالأفران البدائية.

لكن عائلة "عابدين" أبت ألا تُنتزع من مكانها الذي سكنته وعملت به، فاستأجرت محال بالمنطقة نفسها.

ولم يكن ذلك الانتقال الأول للعاملين بصناعة الفخار القديمة، حيث بدأ محمود عابدين (والد محمد وشيخ الفخارين) من منطقة محيط جامع عمرو بن العاص في السبعينات، لكن جميع تحركاتهم لم تتخطِّ حدود منطقة الفسطاط.

لذا نشرت مجلة المصور تقريرًا في 19 مارس عام 1999 بعنوان "فواخير الفسطاط يهددها شبح الانقراض"، تحدثت عن هاجس الخوف والقلق لنحو ألفي عامل من ضياع المهنة إذا تم نقلها من منطقتها.

الخوف نفسه يتجدد الآن عند الجيل الجديد بمجرد أن سمعوا كلمات رئيس الحي الموجهة لمسؤولي مدرسة عابدين ومركز درب 1718 الثقافي عند زيارته الأخيرة لهم: "سنحتاج إزالة الأماكن الثلاثة لتوسعة الطريق"، دون أن يعطيهم تفاصيل أكثر أو سيناريوهات بديلة للتعويض، وفقًا لمحمد عابدين.

363732811_684048277074891_8066782392218857930_n

يقول "محمد"، وهو ينظر إلى صور عائلته القديمة المعلقة حوله، "نحن ولدنا وسكنا وعملنا هنا، وارتباطنا بهذه المنطقة قويًا جدًا".

ذلك الإحساس والحديث عن أهمية منطقة الفسطاط بالنسبة لعائلة عابدين هو نفسه ما نقله والده قبل نحو 22 عامًا لمحافظ القاهرة آنذاك. فاستغل زيارة المحافظ لمجمع الأديان، ليعرض عليه مشروع إحياء القرية مرة ثانية وتشييد أبنية صديقة للبيئة، كذلك تطوير أفران حرق الفخار لمنع التلوث، حسبما يحكي "عابدين".

بالفعل، استجاب المحافظ وخصص لهم أرض القرية المقدرة مساحتها بنحو 3 فدادين كحق انتفاع، وهو النظام الساري حتى الآن.

وفي يونيو عام 2003، وُضع حجر أساس قرية الفخار بشكلها الجديد، حسبما نشرت جريدة الأخبار وقتها تحت عنوان "إشارة البدء لتشييد قرية الفخار بمجمع الأديان". وأوضح ممدوح البلتاجي (وزير السياحة آنذاك) أن "القرية المكونة من 36 وحدة إنتاجية ستوفر فرص عمل لأبناء الحي، وتزيد من عناصر الجذب السياحي في المنطقة".

عادت عائلة عابدين إلى مكانها بالقرية. إذ اتخذ الأخوان "أشرف ومحمد" مكانين أحدهما "مدرسة عابدين" والأخر باسم "شيخ الفخارين".

وبين طرقاتها الضيقة والملتوية، يسير "محمد" داخل أماكنهم بالقرية ليتابع العمل الجاري وتدريبًا لتعليم أشخاص صناعة الفخار.. ويحكي أن السياح يأتون خصيصًا إلى هنا ليشاهدوا هذه الأعمال، التي يشاركوا بها في معارض بدول أوروبية مثل فرنسا وإيطاليا.

وخلال جولته تلك، يشير الرجل إلى أفرانهم التي تعمل بالغاز والكهرباء ولا تسبب ضررًا، ثم يمد يده داخلها ليمسك إناءً، ويقول: "هذه الأشياء صحية مائة بالمائة بعكس البلاستيك والخامات الأخرى". وعليه، تهتم الفنادق والقرى السياحية والمطاعم بمنتجات "محمد".

كما دخلت السعودية على قائمة عملائه، حيث يأتي إليه طلبات كثيرة، أخرها ما رفضه بسبب ظهور حديث عن إزالتهم.. فيقول: "ألغيت عرضًا بمليون جنيه، لأنني لا أضمن التسليم في المواعيد المحددة، وهناك شرط جزائي".

أما جار مدرسة عابدين وشريكها في الأزمة "مركز درب 1718 الثقافي"، الذي تأسس عام 2008، فقال في بيان له: "لن تؤثر عملية الهدم على درّب والمجتمع الذي يخدمه فحسب، بل ستؤثر أيضًا على المجتمع الحرفي النابض بالحياة الذي نشأ حول المركز".

لذا تقدم فريدي البياضي (عضو مجلس النواب) بأسئلة لرئيس مجلس الوزراء ووزيرة الثقافة، قائلا: "هل أصبح بناء الطرق والأحجار أهم من تشجيع الفنون والأفكار؟ هل المنفعة التي ستعود علينا من توسيع طريق؛ أكبر من الضرر الذي سيقع علينا من غلق المجال أمام الفنانين، بالإضافة لتشويه سمعة مصر".

بات "محمد" يخصص جزءًا من وقته ليتابع المنشورات المصاحبة لهاشتاج "انقذوا قرية الفخارين.. لا لإزالة درب 1718 ومدرسة عابدين". يجد في ذلك الكثير من الدعم "الإلكتروني" ولعله يحدث في الأمر شيئًا. يحكي عن ذلك، ثم يشير إلى رجب طه، الذي كان يتصبب عرقًا وهو واقف أمام فرن الفخار، ويقول: "هذا الرجل يعمل في المهنة منذ 47 عام.. أين سيذهب ويعمل إن تم إزالتنا؟".

يدرك رجب طه (63 عاما) تفاصيل ما يدور حوله، لكنه لا يتخيل ابدًا أن يترك مصر القديمة أو حرفته، فيقول: "الأمر ليس أنها مصدر رزقي فحسب، إنما حب وتعلق بها.. حتى لما كبرت وأصبحت لا استطيع حمل أشياء، فلا أريد الجلوس في البيت وأغيب عنها".

لدى "محمد" وشقيقه نحو 40 عامل أخرين غير "رجب". يتحدث عنهم قائلا: "هؤلاء عمال مهرة ينقلون الحرفة إلى غيرهم. إن فقدوها سيذهبون للعمل على توك توك".

استولت الأزمة على أيام محمد عابدين.. صارت ضبابية. فيأتي الرجل كل يوم إلى عمله متخوفًا.. بالتأكيد، يتمنى لو يحدث معه كما حدث مع والده في الماضي، وأن يدرك المسؤولين أهمية المنطقة بالنسبة لهم ويستجيبوا إلى اقتراحهم. إذ عرضوا توسعة الشارع من الطريق المقابل للقرية، وهو جبل غير مأهول بالسكان، حيث أن المطلوب 3 أمتار فقط من القرية.

3 أمتار من شأنها أن تقلب حياة "محمد" وعماله وتنهي تاريخ عائلته في الحرفة، والذي امتد حتى جيلها الرابع، كما يقول، "لا أعرف ماذا أفعل إن وقع السيناريو السيئ!.. أشعر أنني في حلم".

اقرأ أيضا:

تراث مَحذوف: مبانٍ تراثية خارج "قوائم الحماية"

فيديو قد يعجبك: