إعلان

الأموات يواجهون إسرائيل.. حكاية فلسطينية تعلن العصيان داخل "المقبرة اليوسفية"

07:46 م الأربعاء 03 نوفمبر 2021

المستوطنون الإسرائيليون يطمسون معالم المقبرة اليوس

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت- إشراق أحمد:

لستة أعوام، اعتادت علا نبابتة الذهاب إلى المقابر ليومين أو ثلاثة أسبوعيًا. في المدافن المجاورة لسور المسجد الأقصى يرقد الأحباب، ثلاثة أبناء وزوج فقدتهم السيدة الفلسطينية واحدًا تلو الآخر، كانت بزيارتهم تنفض الحزن عن قلبها، لكن منذ نحو 10 أيام تجاوز الهم المدى؛ انتهكت قوات الاحتلال الإسرائيلي المقبرة اليوسفية، مكان دفن الابن الأكبر والزوج، جرفت عدد من المدافن لطمسها وتحويل الأرض لحديقة، من حينها أصبحت الأم مضطرة لحراسة القبور، تخاف أن يغمض لها جفن فتُسلب كفن ابنها وزوجها كما سبق وسلب الاحتلال حياة اثنين من أولادها.

يوم الاثنين، الخامس والعشرين من أكتوبر، استقبلت علا اتصال هاتفي من ابنها صهيب يخبرها "اطلعي على المقبرة"، تعلم الأم جيدًا هذه الصيحة المنذرة بخطب كبير، دون عقل توجهت إلى المكان الذي كانت الأقرب له، وفي الطريق تفقدت مواقع التواصل "شوفت صور لتجريف في المقبرة وكانت الجرافات قريبة من قبر علاء والتراب مغطي شوي من القبر".

1

المقبرة اليوسفية أو مقبرة الأسباط، تقع شرق القدس، يرجع تاريخها إلى نهايات العهد المملوكي، وتحديدًا عام 1467م، مما يعني أن عمرها يبلغ نحو 553 عامًا، وهي من أكبر 4 مقابر في محيط البلدة القديمة –هناك 13 مقبرة وضريح-، تبلغ مساحتها نحو 36,700 متر مربع كما ذكر زياد ابحيص، باحث متخصص في شؤون القدس، في مقال له نشر في 29 ديسمبر 2020.

اشتعل قلب علا وزادت حرقته بالوصول؛ وقف جنود ومجندات تابعين لشرطة الاحتلال يمنعون الأهالي من زيارة قبور ذويهم. لم تتمالك الأم نفسها، دفعتهم ودخلت بينما تنظر للجرافة المجاورة لمدفن ابنها المتواجد بأول المقبرة، وعلى الفور ألقت بجسدها تحتضن القبر فيما يحاول الجنود إبعادها بالقوة، كلما نزعوا يدها تمسكت أكثر وهي تبكي.

"من يومها وإحنا بنرابط حد المقبرة وبنعاني.. كل يوم يتحركشوا فينا –يتحرشوا- لأن اللي بيجرفوا مستوطنين" تقول أم علاء لمصراوي، بينما توضح ما يجري من قبل ذلك التاريخ؛ بعد 9 أشهر من وفاة الابن، أكتوبر 2017، استقبلت الأم خطابًا من سلطة الطبيعة والحدائق الإسرائيلية تطالب الأسرة بنقل الجثمان لأن الأرض لا تتبع الأوقاف الإسلامية رغم أنها الجهة المخول لها إعطاء التصاريح بالدفن، تقول الأم "كيف بدنا ندفن وإحنا مش معنا إذن يعني؟".
رفضت أسرة الفقيد الأمر وظلوا في توجس "قلنا لو هيعملوا أي شيء هنكون على راس الحدث" لكن ساد هدوء حذر طيلة أربعة أعوام مضت حتى العاشر من أكتوبر المنصرف، كانت الذكرى الرابعة لوفاة الابن، ذهبت السيدة الخمسينية كعادتها لتتفاجأ بجرافات تنبش مقبرة لجنود أردنيين حاربوا في القدس أثناء حرب 1967. رأت الأم بعينيها العظام والجماجم، لم تعلم أتبكي فقدها أم لتخيل مصير مماثل.

2

في عام 1964 صادرت أمانة القدس في عهد الأردن -1948 حتى 1967- المقبرة من أصحابها الأصليين المقدسيين لتوسعة مقبرة الشهداء الأردنيين، ومن وقتها أصبحت مستقر العشرات من شهداء الجيش الأردني والمواطنيين الفلسطينيين، وأكدت محكمة الاستئناف الأردنية فترة الحكم الأردني في القدس أن الأرض جزءًا من منطقة المقابر وتوالى الدفن فيها تحت إشراف الأوقاف الإسلامية منذ عام 1967 كما يقول المحامي الفلسطيني مدحت ديبة لمصراوي.
ينكر الاحتلال الإسرائيلي ملكية الأرض للأوقاف الإسلامية في القدس، وطالما يصرح بأن هذه المنطقة تدخل في زمام "المشروع الوطني اليهودي" الذي اقترحه مهندس إسرائيلي ببلدية الاحتلال عام 2007 ويتضمن نحو 16 تغييرًا في محيط القدس، ومن بينها إقامة حديقة توراتية وقطار هوائي "تلفريك" يمر على أرض اليوسفية.

3

يحيط اليوسفية سور ودرج أثري يصل من شارع يحمل اسم السلطان سليمان إلى باب الأسباط للمسجد الأقصى، ومن خلال المقبرة يمكن الوصول لباب الرحمة في الجانب الشرقي الجنوبي للمسجد الأقصى، ولهذا كان يسهل على علا القاطنة في مخيم شعفاط –شرق القدس- زيارة أبنائها وزوجها المدفونين في اليوسفية ومقبرة باب الرحمة.
بعد عام ونصف من الحزن الشديد على مقتل شقيقه، رحل علاء متأثرًا بإصابته بجلطة في القلب عام 2017. كان بهاء أول الراحلين في منزل النبابتة، تصفه بوالدته بالشاب النشيط، طالما تحرك لأجل تحسين الحياة في مخيم شعفاط –شرق القدس- مكان إقامتهم حتى أن وفاقته وقعت بينما يشرف على تطوير أحد الطرق، لم يسلم من اعتقال الاحتلال، وداوم على محاربة عصابات السلاح والمخدرات التي تنتشر في المخيم بدعم من الاحتلال، وهو ما تسبب في مقتله كما تقول والدته "بهاء مقتول من إسرائيل بأيدي فلسطينية".
عُرف بهاء في فلسطين بـ"شهيد الغدر" وكذلك شقيقه الأصغر إيهاب، الذي قُتل هو الآخر على يد العصابات في نوفمبر 2018 بينما كان يحاول كشف تفاصيل استهداف أخيه. دفنتهما الأم في مقبرة باب الرحمة.

4

بكت الأم طويلاً ورضيت أوقاتًا أطول؛ تعرضت علا مسبقًا لما يحدث الآن "بعد دفن ابني بهاء سلطة الطبيعة كان بدهم ياخدوا القبور"، وصل الأمر لاعتقالها مرتين وعمل قضية لها وزوجها بالمحكمة "قال بدنا نعرف مين خلاكوا تدفنوا هون". انقضت الأيام وتزامن ذلك ما يعرف بـ"هبة باب الرحمة" لمنع الاحتلال من غلق المنطقة، فتراجع الاحتلال، فيما لا تزال تذكر أن يوم وفاة زوجها كان يوافق إحدى جلسات محكمة الاحتلال.

ليس الاعتداء الأخير على اليوسفية الأول من نوعه، بل الرابع خلال أقل من 7 سنوات كما يوضح ديبة. في عام 2014 قامت بلدية الاحتلال بإغلاق أكثر من 40 قبرًا لمنع الدفن فيها، وعام 2017 جرفت جزءًا كبيرًا من الأرض واقتلعت الأشجار وتدمرت المنطقة الجنوبية للمقبرة، وقبل أشهر، في ديسمبر 2020 يقول المحامي الفلسطيني إن الجرافات كادت تجهز على الأرض في أيام معدودة أمام رد الفعل الرسمي والشعبي الضعيف جدًا كما يصف.
كذلك تأسف علا على غياب الدعم الشعبي وما وصل إليه الحال في اليوسفية، تذكر أنها كثيرًا ما كانت وحيدة تتصدى لجرافات الاحتلال، كما يستعيد المحامي الفلسطيني وقوف رئيس لجنة المقابر الحاج أمين أبو زهرة وحده هو الآخر، وقد تجاوز السبعين من عمره كي يمنع الجرافات الإسرائيلية من التعدي على الأموات.

5

لأعوام يحاول الاحتلال "سرقة الأرض بكل الوسائل. بالإرهاب والقوة قبل القانون" كما يقول المحامي الفلسطيني، ويوضح أنه داخل المحاكم مارست البلدية والطبيعية "التضليل" بشأن اليوسفية لحظر الدفن، وحينما فشلت المحاولات وتوقف العمل التخريبي لأكثر من 8 أشهر بعدما تدخل المحامون المقدسيون في ديسمبر 2020، عاد الاقتحام مرة أخرى بعدما قامت جهة مجهولة باستحداث ثلاثة قبور جديدة داخل الأرض مما أعطى الفرصة لقاضي جديد حُول له الملف مؤخرًا بأن يصدر قرار إلغاء أوامر المنع والسماح للبلدية باستمرار الأعمال.
ظلت المناوشات قائمة مع موظفين ما تسمى "سلطة الطبيعة والحدائق الإسرائيلية"، لكن يومًا تلو الآخر ويزيد الغضب، في نهاية أكتوبر الماضي، وضعت قوات الاحتلال باب مغلق على المقبرة، وفي يوم الجمعة الماضي وقع اشتباك مع الأهالي واعتقل البعض، كان منهم صهيب، ابن علا نبابتة، قادوه إلى الشرطة التي أصدرت قرار بإبعاده عن المقبرة وتغريمه 500 شيكل (ما يعادل 2600 جنيهًا مصريًا).

6

في الثامن والعشرين من أكتوبر الماضي، نشرت هيئة الأوقاف الإسلامية في القدس بيانًا تندد فيه بما يجري في اليوسفية، فيما لجأ المحامون إلى القضاء الإسرائيلي رغم يقينهم أنها "مراهنة خاسرة" كما يقول ديبة، لكنهم يعتبرونه إجراء تكتيكي لعرقلة المشروع لكسب الوقت من أجل متسع لموقف رسمي وشعبي الذي من دونه "يستمر الاحتلال لإخفاء معالم جريمة نبش القبور قبل أن يسمع بها العالم".

تداوم علا على البقاء وحدها في اليوسفية، تشاركها بعض الأمهات، ومن وراء الأسوار يفد الملبون لاستغاثة أهالي اليوسفية، ينظرون بأسى لأيدي الإسرائيليون بينما يواصلون أعمال طمس المقبرة.

تعلم الأم الفلسطينية أن ما يحدث ضريبة المقدسيين "إذا بدك تعيشي في القدس بدك تكوني صاحبة هم أم شهيد أو أم أسير إما مهدودة دارك وفي الأخير نبش القبور"، تواصل رباطها أمام قبر ولدها حتى تحت المطر، يعتصرها الألم مرتين، فيما لا تكف عن الصراخ لعلها تُسمع آذان الأحياء "أنا راح أموت عند القبر، ولا مرّة بجرفوا قبر ابني إلا وأنا ميتة. اليوم ابني وعشر قبور بكرة كل ولادكم.. كل اليوسفية راح ياخدوها"

7

فيديو قد يعجبك: