إعلان

15 عاما على إنشاء "مكان".. حلم "المغربي" في تسجيل التراث الغنائي المصري (حوار)

02:44 م الإثنين 17 يونيو 2019

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

حوار- رنا الجميعي:

تصوير-جلال المسري:

كان أحمد المغربي يمشي بلا هُدى، لا يرى ملامح الشارع الذي يسير فيه، امتلأ عقله بالحُلم الجميل، مكان تُغنّي فيه الفرق القادمة من محافظات مصر المُختلفة تُراثها، وأخذ يُناجي ربه "عايز مكان يارب"، لتُبصر عيناه فجأة منزل على الناصية، عُنوانه 1 شارع سعد زغلول.

يجد المغربي مُراده، هُنا سوف يصير المركز المصري للفنون والثقافة، أو كما عُرف بـ"مكان"، الذي مرّ على إنشائه 15 عامًا.

يقوم مكان على مدار سنوات، بالتركيز على التراث المصري المنسي، تشتهر فيه حفلات فرقة زار مزاهر، وفرقة المواويل، كما لديه فرقة الأراجيد والتي تعني أغاني الفرح في النوبة، كذلك فرقة تكسير شرقي والمهتمة بالمزج في الموسيقى بين الجديد والقديم، كما يهتم المركز بالبحث وراء التراث الشعبي داخل القرى والنجوع، وإلى الآن يحتفظ بأرشيف ضخم مرئي ومسموع.

1

لم يبدأ اهتمام المغربي بالتراث الغنائي المصري صغيرًا، غير أنه أحبّها خلال دراسته بالجامعة في أوائل الثمانينيات، فهو خريج كلية الألسن، يقول في حواره مع مصراوي "كنا أحنا آخر الدفعات اللي شافت أحلى الأنشطة الثقافية في الجامعات، كان فيه مسرح وتصوير وفن تشكيلي"، حيث شارك المغربي في فرقة الفنون الشعبية كواحد من الراقصين، وقتها كان كل ما يعرفه صاحب مكان عن الموسيقى هو الأصوات الغنائية المتداولة في شوارع مصر.

2

يجلس المغربي في مكتبه الواقع بالدور الثاني داخل مكان، يستقر به بعد سنوات من الانتقال وإقامة الحفلات على مسارح المراكز الثقافية، أصبح له مكانه الخاص، بالأسفل تبدأ الحفلة الأولى؛ تستعرض فرقة الموال والمغنى البلدي في مواويلها الشعبية، والحكم الخالصة، أمام جمهور عدده اثنان.

كان للمغربي الكثير من الأصدقاء الفرنسيين منذ أن كان طالبًا جامعيًا، ذات مرة سألوه عن رغبتهم في سماع موسيقى مصرية "أخدتهم ساعتها لفرقة رضا على أساس إنهم يسمعوا حاجة أصيلة"، لم يُعجب الأصدقاء الأمر، استغربوا ما سمعوه، حينها كان مرّ سنينًا على إنشاء فرقة رضا التي كانت مرحلة شبابها في الستينيات، "فهمت منهم إن مش هي دي المزيكا، لكن فيه موسيقى تانية حقيقية".

3

شغف ما مسّ قلب المغربي تجاه البحث وراء الفولكلور المصري، بعد تخرّجه عمل الشاب كمُترجم، وعُيّن معيدًا بالجامعة، لكن ذلك الطريق لم يكن الحلم بالنسبة له، كانت عيناه ترى مسارًا آخر "وبدأت أروح الموالد"، عالم آخر استكشفه المغربي، رأى موسيقى خفية تتردد هناك، تستحق أن تُسمع.

4

دار المغربي مُحافظات مصر، يستقصي وراء الصوت الفريد "كنت بتشدّ بالملاحظة"، من شمال مصر لجنوبها، كان ينبهر بتلك الألوان الغنائية التي لم يعرف عنها شيئًا قبل ذلك، حتى أنه لفّ المحافظات ليُسجّل تلك الألوان صوت وصورة، كما كوّن المغربي من بعض الفنانين الذين التقاهم فرق غنائية من النوبة وأسوان والإسكندرية والشرقية والمنوفية، وذلك من عام 1984 حتى 1990، في ذلك الوقت كانت علاقات المغربي بمعهد العالم العربي في باريس، مكّنته من إقامة حفلات لتلك الفرق هناك.

5

أحيانًا تبدو بعض التجارب بلا قيمة، لكن مع الوقت تكتشف أهميتها، عام 90 انتدب المغربي في وزارة الثقافة، وعُيّن مديرًا لقصر البشتاك في منطقة الجمالية، حلُم المغربي وقتها أن يقيم قصر ثقافة له أنشطة فنية مميزة، غير أنه خلال عام انتدابه فشل في إقامة بروفة واحدة بسبب الصدامات مع رؤسائه "بعد ما جهزت خطة للمركز، وميزانية وبرنامج وخطة عمل، فشلت تماما أحرك أي حاجة".

6

يتذّكر المغربي تلك التجربة وهو الآن صاحب مركز فني متميز، الليلة تمكّن من إعداد الفيزا لعدد من الموسيقيين والفنانين لديه، هناك أوراق لم ينتهِ منها بعد، لكنه ليس قلقًا، الرحلة غدًا ستكون للنمسا حيث سيقيموا حفل هناك، "في مصر لازم تبقى عارف الورق بيمشي ازاي، الروتين، دا اللي اتعلمته من تجربة البشتاك".

7

بمرور السنين كان المغربي يغوص أكثر في أصول الموسيقى المصرية، يُرجع الفضل بذلك للملحن والموسيقي، سليمان جميل، تعلّم المغربي على يديه الكثير، وعن طريقه تعرّف على كثيرين من أسطوات المغنى "منهم عبده داغر، والشيخ محمد الهلباوي"، غاص المغربي أكثر في جذور التراث المصري "عرفت الفرق بين النوبي الفاديكي والكنزي، مين الغجر ، وإيه أصولهم".

8

لم يترسّخ في ذهن المغربي الحلم بمركز مستقل له، كانت نصيحة من صديق له عام 92، بالفعل قام بعمل كيان قانوني باسم المركز المصري للثقافة والفنون، ومنذ ذلك الوقت ظهر الاسم للنور "كانت عبارة عن شقة مفروشة في سعد زغلول، واجهة قانونية عشان نقدر نطلع حفلات"، وتنقلت الفرق بين مسارح المراكز الأجنبية.

9

تشرّب المغربي الموسيقى على مدار سنوات، تراه الآن فتجده باحثًا ومُوزعًا، كتب نصوصًا عن موسيقى الزار والموال، كما شرع في عدة مشاريع موسيقية، على رأسها "موزارت المصري"، فهي مُعالجة مصرية شعبية لموسيقى موزارت، لماذا اختار المغربي مؤلفات الموسيقار الألماني تحديدًا؟ "لأن أعماله فيها مساحات أقدر أشتغل عليها، وموزارت نفسه كان معجب بمصر ونفسه ييجي، عنده 11 عمل تقريبًا ليهم أسماء مصرية مستوحاة من القديم".

10

اتسعت تجربة المغربي كثيرًا حينما صار مُلحقًا ثقافيًا لمصر في باريس، وذلك من عام 1999 حتى عام 2002، نجح المغربي هناك في إقامة 260 ليلة داخل المركز الثقافي المصري، وتردد عليه الكثير من الفرق الفنية "سواء اللي كنت أنا كونتها أو فرق تانية"، كانت تجربة هامة بالنسبة للمغربي "فرقت معايا في الخبرة والتعامل الدبلوماسي، وإني أبقى على دراية بالتطور في الحركة الموسيقية في أوروبا".

11

بعد شقة سعد زغلول انتقل المغربي إلى فيلا صغيرة في حدائق الأهرام، سنة 2002، "مكان نعمل فيها البروفات بس ونعرض برة"، غير أن تساؤلًا ظلّ دائرًا في ذهنه "كنت بفكر إن الشكل الشعبي اللي بقدمه شبه المولد والحضرة ودقّة الزار، مش محتاج مايكات ومسرح والجو ده، لأنه بيفقد كتير من روحه، لكن محتاج حميمية".

1212

داخل مكان كانت الريسة مديحة تُنشد "ياورا بيه يا أسمر يا حيلة .. ياورا بيه بعيون كحيلة"، ترتدي عباءة باللون الزيتي، تضع روج غامق اللون، تقف في المنتصف بين أعضاء فرقتها، تُمسك بطرف حجابها، تهز كتفيها يمينًا ويسارًا، أمامها يجلس الجمهور على المقاعد، ويفيض العدد على الوسائد المُتراصة أمام الريّسة، الأيادي تُصفّق والأجساد تتمايل على النغمات، لا يزيد عدد الجمهور عن المئة، لا يجد البعض مكانًا للجلوس فيقف مُستندًا على جُدران عمرها أكثر من قرن، عليها غُبار الزمن.

13

توصّل المغربي إلى أن ورثة المكان الذي شدّ انتباهه، هم ورثة الصحفي عبد القادر حمزة، وأن تلك البُقعة كانت مطابع لجريدة البلاغ، لا يعلم المغربي كيف وافق 128 وريثًا على تأجير المكان، ولكنه بالفعل حقق مُراده، ليجد المكان مُغلقًا لسنين طويلة والعنكبوت يُعشش فيه، ما يُميّز "مكان" هو ديكوره المُجرّد، الخالي من أي تصنّع.

ظلّ المغربي يُفكّر شهورًا، كيف سيكون شكل المكان، "الفيلا اللي كانت في حدايق الأهرام كنت عاملها كنبة بلدي، وزلعة والجو ده"، غير أن الفنان التشكيلي عادل السيوي أشار إليه أن يستلهم من البيئة المُحيطة في وسط البلد هيئة المكان "قالي دي مش منطقة زراعية، فكر فيها بشكل تجاري"، كراسي خشبية ووسائد، وسُلّم خشبي يشبه سلم ضريح سعد زغلول، وجُدران عارية من كل شئ، وسجاد يدوي، هذا ما صار عليه شكل مكان حتى الآن.

14

دون أي ضجّة مُسبقة افتتح مكان عام 2004، بحفلة لفرقة الموال، جمهورها عدده فردين، وصار عماد مكان خمس فرق هم؛ مزاهر للزار، الموال والمغنى البلدي، أراجيد من النوبة، الجعافرة من أسوان، وتكسير شرقي وناس مكان، يحكي المغربي أنه لم يعتمد مُطلقًا على الدعاية، بل الجمهور هو وسيلته في جذب عددًا أكبر"كل ما تيجي مجموعة تقول لعدد أكبر وهكذا".

15

الأصالة كانت أسلوب تعامل المغربي، اعتنى بكل تفصيلة تخصّ حُلمه، بما فيها زي الفنانين، يتذّكر المغربي خلال سفرية مع فرقة مزاهر للزار، أن الريسة مديحة ملأت حقيبة كبيرة بالملابس "لبس مودرن"، استفسر منها المغربي فتقول له "مش عشان الأجانب يعرفوا إننا بنفهم؟"، لم يكن ذلك ضمن طموح المغربي، كان همّه نقل الثقافة المصرية كما هي "عشان كدا مهتم إنهم يفضلوا باللبس المصري بتاعنا، الجلابية".

16

من ضمن العوائق التي واجهت المغربي أن المُجتمع المصري نفسه لا يهتم بتراثه، "حتى المصريين مبقوش ييجوا الحفلات بتاعة مكان إلا على ايد أجانب صحابهم"، يقول المغربي إن جمهوره في البداية كان معظمه من الأجانب، ثم جذب مكان شريحة الشباب، وجاء أيضًا المشاهير من مصر والوطن العربي.

خلال سنوات عمل مكان قامت العديد من المشروعات، فتح المغربي أبواب المركز للعازفين خلال فترة حظر التجول، صيف 2013، واستضاف الكثير من الأجانب ضمن ورش عمل مع فرق مكان، حيث أسس المغربي بُقعة أخرى بنفس اسم مكان، داخل قرية تونس بالفيوم، عام 2008، كان نتاج ورش العمل العديد من الحفلات.

17

كما وقع تحت يديه الجزء الخاص بالموسيقى في مصر في كتاب "وصف مصر"، حيث تناول الفصل الموسيقي من طقاطيق وأغاني وموشحات منذ المصريين القدماء وحتى قدوم الحملة الفرنسية عام 1879، "أخدنا الألحان المدونة بكلماتها ودخلتها على الكومبيوتر"، حتى تحوّلت إلى كلمات مُغنّاة على لسان سيد إمام وعبد الرحمن بلالة، مغنيين فرقة الموال والمغنى البلدي.

حصل مكان على عدد من الجوائز؛ منها جائزة جامعة انديانا كأفضل مؤسسة عربية وإسلامية، وتكريم من مهرجان الموسيقى الصوفية في باكستان، تلك الجوائز غير ذات أهمية في مقابل أن يُصبح هناك اهتمام حقيقي بالموسيقى في مصر، كما يذكر المغربي.

18

يُحاسب مكان ضريبيًا على أنه ملهى ليلي، كما تحصل نقابة المهن الموسيقية على ضرائب منه "عشان بنشغّل موسيقيين مش منتميين للنقابة"، كما واجه المغربي قضية تم رفعها على مكان وبعض الفنانين الذين لم يحصلوا على تصريح من النقابة "ودفعنا غرامة".

لم ترتفع تذكرة مكان سوى العام الماضي، وصارت خمسين جُنيهًا، حيث بدأ سعر التذكرة حين الافتتاح بعشرين جنيه، في نظر المغربي أنه يهتمّ بجذب أفراد الأسرة المصرية لحضور الحفلات "الناس معندهاش قدرة تدفع تذكرة بميت جنيه". ووصلت التذكرة هذه السنة 80 جنيه، لا يرى المغربي حل سوى بوجود شراكات أخرى معه.

19

عبر سنوات البحث في جذور الموسيقى، حفظ مكان حوالي 25 تيرا بايت من الأرشيف المرئي والمسموع للتراث الشعبي من محافظات الدلتا والواحات البحرية وسيوة وأسوان والنوبة والإسكندرية وغيرهم، يتذكّر المغربي أن اللون الموسيقي الذي جذبه كان الزار "سمعته أول مرة في نص التسعينات في منطقة أبو السعود في مصر القديمة"، في فن الزار مغناطيس يجذب إليه الأذن "فيه روح بتوصلني لبهجة لا نهائية".

لا يوجد آخر لأحلام المغربي، يتمنى وصل شمال مصر بجنوبها، وفي جزيرة بأسوان يريد عمل مشروع جديد، "بحلم بمشروع مشترك مع أصدقاء من أسوان، احنا ننقل تجربتنا الموسيقية، وهما ينقلوا تجاربهم في الحرف اليدوية".

تابع باقي موضوعات الملف:

مكان

"مكان".. مخزن "تراث" مصر المنسيّ (ملف خاص)

لأجل التراث

"لأجل التراث".. "فرح وبلالة" أصوات تُحافظ على أغاني الموال والنوبة في "مكان"

أيام في حضرة

أيام في حضرة الموسيقى.. مصراوي يعايش تجربة جمعت عازفين من مصر وسويسرا

حكاية واحد من

حكاية واحد من دراويش "مكان": شبه بيت جدي

فيديو قد يعجبك: