إعلان

"اللي بيرسم مش بيموت".. حكاية متحف الكاريكاتير الوحيد في الشرق الأوسط

05:37 م السبت 10 نوفمبر 2018

متحف الكاريكاتير

تطبيق مصراوي

لرؤيــــه أصدق للأحــــداث

كتبت-شروق غنيم ودعاء الفولي:

تصوير-محمود بكار:

بين 500 رسمة كاريكاتورية، كان محمد عبلة يتجول. تختلط بداخله مشاعر الفخر، الحماس، والتشوق لاكتشافات جديدة. مازال الفنان التشكيلي يستكمل إثراء متحفه القابع بالفيوم، تؤنس أعمال الفنانين وحشته، يضحك إذ يمر عليها؛ كُل مرة كأنها الأولى. يقف أمامها كثيرا ليتعلم، يتحدث معها أحيانا، يدين لها بالفضل، فلأجلها دخل عالما لاذعا وجميلا، وظل بداخله إلى الآن.

منذ كان صغيرا، يحترم عبلة عالم الكاريكاتير، يراه فنا مظلوما في مصر "من خلاله نحكي تاريخ البلد، نعرف الشعوب بتحب إيه وبتكره إيه وإيه الكلمات اللي بيستخدموها" حسبما يحكي عبلة. عايش التشكيلي صاحب الخمسة وستين عاما رسامي كاريكاتير من أجيال مختلفة، لكنه ظل محتفظا بأمنية الرسام زُهدي العدوي "كان نفسه يعمل نقابة وجمعية للكاريكاتير ومتحف الناس تروحه وتتفرج عليه"، كان العدوي سعيد الحظ، إذ أنشأ بنفسه الجمعية في الثمانينات قبل وفاته بأعوام قليلة، فيما وعده عبلة أن يبني متحفا يوما ما، ونفّذ كلامه في 2009.

1

حكاية عبلة مع المتحف بدأت باكرا. عام 1984 اضطر لقضاء ليلته داخل قرية تونس بالفيوم "كانت الدنيا مطر والطرق مقفولة"، استيقظ في اليوم التالي وشاهد شروق الشمس "اتجننت.. كان من أحلى الحاجات اللي شفتها في حياتي"، قرر شراء منزل في نفس المكان، رغم أن القرية لم يكن فيها كهرباء أو مياه "فضلنا أربع سنين من غيرهم.. بس الجمال البِكر اللي هنا يستاهل"، حين جمع عبلة المال اللازم لبدء المتحف، فكّر في منزله "قررت أحوّله للمتحف"، لم يكن ذلك لتوفير النفقات فقط "لأن اللي بييجي هنا بيبقى عنده وقت ومزاج يتفرج على حاجة حلوة، عكس القاهرة اللي كل حاجة فيها بتمشي بسرعة".

بشكل بطيء اجتمعت الرسومات لدى عبلة "كنت أعرف عن الكاريكاتير بحكم حُبي ليه، بس اكشتفت ناس كتيرة مش معروفة"، باتت مصادرة متعددة؛ أهمهم تُجار الكتب الذين يشترون مكتبات كاملة وينقب هو داخلها عما يريد، أو من خلال البحث الشخصي عن أفراد بعينهم بالإضافة لأبناء الفنانين أنفسهم "بعضهم بييجي هنا ويجيبلي أعمال من والده أو يهديها ليا".

2

ينقسم المتحف إلى عدة قاعات تحمل أعمالا منذ عام 1930 وحتى الآن "أقدم حاجة هي لفنان أسباني اسمه سانتيس"، وقعت رسوماته بالصدفة في يد عبلة، ليدرك أنه تقريبا يملك أعرق ما قُدم في الكاريكاتير بمصر "الراجل ده كان بيرسم في مجلة الفكاهة واضحك والكشكول ومجلات تانية كتيرة"، توالت الأسماء عليه فيما بعد، لكل منها تفاصيل "بعض الرسامين دول لسة عايش، وبعضهم رجع يرسم تاني بسبب المتحف زي كرم بدرة".

منذ بضع سنوات حصل عبلة على رسمة لبدرة "كانت صغيرة بس احترافية جدا"، لم يهدأ لصاحب المتحف بالا حتى "اكتشفت إنه عايش وإنه رسم حوالي 30 غلاف لمجلة صباح الخير بس بطل رسم"، التقى به الفنان التشكيلي وطلب منه أعمالا أخرى ليعرضها في المتحف؛ وافق الأخير وقرر العودة لما يُحب "يمكن معملش ده في مجلات مشهورة ويمكن اقتصر على فيسبوك بس في الآخر رجع للفن".

3

لا يقتصر المتحف على أعمال الكاريكاتير فقط؛ يشمل قاعة للسينما، أخرى لأعمال النحت، ثالثة للورش الفنية، فمنذ انضمام إبراهيم عبلة للمكان، يحاول ابن صاحب المتحف والذي يعمل بالإخراج، إضفاء صبغة فنية جديدة "مش عايزين بس الناس تيجي تتفرج على الكاريكاتير، لازم يحسوا إن فيه أنشطة تانية".

درس عبلة الصغير الإخراج الفني في سويسرا، وعاد لمصر منذ أعوام قليلة مستقرا في قرية تونس، مصطحبا معه زوجته وأطفالهن، يُباشر بنفسه العمل في المتحف، فيما تُعطي زوجته للأطفال ورش فنية في العطلات الأسبوعية، جنبا بجنب يعمل الأب والابن ليأتي الناس ويشاهدون المتحف "الإقبال بيزيد بس أكتر اللي بييجوا أجانب".

4

لا يأتي القادمون للاستمتاع فقط؛ فمن ألمانيا وسويسرا حضّرت طالبتا ماجستير رسالتهما من المتحف، بينما لم يحدث الأمر داخل مصر إلا بواسطة طالبة دكتوراه في الجامعة الأمريكية. يرضى صاحب المتحف بالعدد البسيط الذي يزوره، لكن الأمر لا يخلو من المشاكل؛ أهمها اعتماده الكامل على دخله الشخصي "مش هينفع أروح أقول لوزارة الثقافة هاتوا فلوس"، يوفر الفنان الستيني كل قرش "عيشتي في القاهرة تكون بسيطة عشان أخدم المكان هنا"، يضحك قائلا "كل مرة بفكر أشتري فيها حاجة ممكن تكون مهمة ليا بتنازل، آخرها كان التكييف".

لا تتوقف أزمات المتحف عند ذلك الحد؛ فجزء من التوثيق هو ترجمة الأعمال للإنجليزية "حاولنا نعمل ده لفترة بس مستمريناش لأننا شغالين لوحدنا" يحكي إبراهيم، فيما يضيف والده "الأجانب بيبقى عندهم شغف يفهموا الرسمة، ولأن الرسمة دي مربوطة ببيئتها المصرية فلازم يكون فيه ترجمة احترافية".

5

المتحف يُشبه شريط الذكريات بالنسبة لعبلة. خلال جمعه للأعمال سمع حكايات مضحكة، رواها له الفنانون بأنفسهم، كأحمد طوغان الذي أثرى الفن برسومات منشورة في أماكن عديدة، أبرزها مجلة صباح الخير. بعد افتتاح المعرض زار طوغان متحف عبلة، نشأت صداقة بينه وبين صاحب المشروع، فقصّ عليه كيف تهرّب هو ومحمود السعدني مرارا من الرئيس الراحل أنور السادات بسبب الكاريكاتير.

قبل ثورة يوليو 1952، وُلد مشروع مجلة ساخرة باسم "الربابة"، اشترك فيها طوغان والسعدني "لكن صاحبها فلّس قبل ما يشتغلوا"، إلا أن الصديقين وجدا ممولين آخرين، منهما الرئيس السادات، الذي اعطاهما 15 جنيها "طبعوا أول عدد واتباع منها خمسين نسخة بس كان فيه مرتجع كتير"، سعى طوغان للبحث عن مُهتمين آخرين بالفكرة لاستكمال مسيرة المجلة "بس في نفس الوقت كان السعدني باع المرتجع كله بخمسة جنيه لبتاع روبابيكا"، حين علم طوغان أصابه الفزع "قال له السادات ليه عندنا فلوس، هنرجعها إزاي؟"، لم يكن السعدني وقتها يمتلك مالا كافيا ولا طوغان، فقررا الابتعاد عن درب صديقهما تماما "كانوا مبيحبوش يقابلوه في أي محفل عام عشان ميسألهمش عن الفلوس"، ولما صار السادات رئيسا للجمهورية طلب من طوغان أن يُمسك وزارة الثقافة "فطوغان قال له إذا كان خدت منك 15 جنيه ضيعتهم، ما بالك لو خدت الوزارة هضيع البلد كلها".

6

في رحلة المتحف، تعلم عبلة أن الفن الجيد لا يموت، باتت عيناه ثاقبتان لاختيار الرسومات التي تستحق "الكاريكاتير فكرة، ثم بعد كدة تيجي الخطوط والرسم". قابل أعمال كثيرة مجهولة الاسم، ووصل لأصحابها، كتلك المرة حينما اتصل به تاجر كُتب يُخبره بحصوله على مكتبة كبيرة "لما روحت أشوفها لقيت أعمال تحفة لفنان اسمه علي رضا"، اشترى عبلة جميع الأعمال من التاجر ومعها وجد بطاقة شخصية للفنان الراحل، قابل أبنائه وعلم أن والدهم كان مُهندسا، وكان غزير الإنتاج، لكنه انقطع عن الرسم في عام 1955، وظل بعيدا عنه حتى وفاته منتصف الثمانينات.

7

حين يُشاهد عبلة الرسومات، يشعر بالغبطة "رسمت كذا مرة كاريكاتير بس منشرتوش"، يؤمن أنه فن يحتاج للتفرغ والتركيز، لذا اكتفى بالتوثيق والنبش "كوني بمتلك جزء من تاريخ الكاريكاتير هنا في المتحف فده شيء يبسطني"، متحف عبلة هو الوحيد في الشرق الأوسط حاليا، داخله اُقيمت الكثير من المعارض لفنانين راحلين أو موجودين على الساحة، يفتح صدره لكل حكاية، معلومة، أو فكرة تضيف لمتحفه، لا يُغلق الباب أبدا في وجه الجمهور، يُسعده أن يحكي لهم كيف أقام المكان، يشرح ما وراء كل رسمة، ويُخبرهم أنه أوفى بعهده لـ"عم زهدي" كما كان يناديه.

8

فيديو قد يعجبك: