إعلان

فخ الحداثة وسطوة الشاشات

د. ياسر ثابت

فخ الحداثة وسطوة الشاشات

د. ياسر ثابت
03:50 م الثلاثاء 26 مارس 2024

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

د. ياسر ثابت

تميل معظم المقاربات التي تتناول ظواهر العصر سواء أكانت اجتماعية أو ثقافية أو سياسية أو تقنية إلى تبني رؤى تتسم بالاحتفاء أو التأثيم وتحميلها أوزار الإنسان، وقليل منها يتبنّى اجتهادات عقلانية ترى فيها تجليًا من تجليات «الملحمة الإنسانية الكبرى» بتعبير ألبير باييه، بكل فتوحاتها وإخفاقاتها وشطحاتها. فالمحتفلون والمولعون بهذه الظواهر خاصة الرقمية منها عادة ما يرون وجهها المضيء فقط، وإذا ما انزاحت عنهم الغشاوة ولو لبعض الوقت، فإنهم يصمّون آذانهم عن أزماتها وإخفاقاتها ومزالقها؛ إذ لا تعدو، بحسبهم، كبوة جواد. أما القائلون بتأثيمها، وربما اعتبرها بعضهم رجسًا من عمل الشيطان، فلديهم فائض وعظي يحول بينهم وبين فقه واقعها، ومساءلة إرهاصاتها، وتفكيك متغيراتها؛ ذلك أن الخطاب الذي يعملون على تسويقه يغيّب العقل ويبخسه حقه، ويتبنى قراءةً ارتكاسية خالدة إلى الأرض.

من الذين يتبنّون رؤية وسطية تقوم على المساءلة والمحاججة بعيدًا عن هؤلاء وهؤلاء، الباحث الجزائري عبد العالي زواغي الذي يأخذنا، في كتابه «فخاخ الحداثة وسطوة الشاشات: من نسق العقلانية والمعرفة إلى نسق الهيمنة والمابعديات» (دار فهرنهايت 451، الجزائر، 2023) في رحلة فكرية ممتعة وماتعة تحضر فيها اجتهادات مفكرين وفلاسفة مثل فوكو، وبودريار، وعبد الوهاب المسيري، وألبير باييه، وتودروف، وأركون، وأرسلان، وليبوفتسكي، وموران، وهابرماس، ومدرسة فرانكفورت وغيرهم. الشاهد أنه يستحضر هؤلاء من أجل إثراء رؤاه وتعظيم حُجته وصولًا إلى استنتاجات تجمع بين الوعي بتجارب الماضي والتنبه لتحديات الحاضر والمستقبل.

أما الخيط الناظم لهذا الكتاب فهو «فخاخ الحداثة وسطوة الشاشات»؛ إذ إن الباحث مسكونٌ بهذا المد الجارف للتكنولوجيا الرقمية وإعادة هندستها لما يسميه لوسيان سفاز «الإنسان الكسول»، و«محاولة القبض على رهانات الحقيقة المبعثرة بين الهوامش وخلف الكواليس».

يرى المؤلف في كتابه الذي يقع في 242 صفحة، أنه لا يمكن للأفراد أن يغيِّروا العالم و أن يشقوا مجرىً تاريخيًا جديدًا ومختلفًا من لا شيء، بل إن الأفكار القوية هي المصدر الرئيس لهذا التغيير ولهذه الصيرورة، لما تحوزه من قدرة وإمكانية مرنة وناعمة، تجعلها تنفذ بسلاسة إلى العقول وعبور الأزمان، فالغرب أسس دوله بالاستناد على مرجعياتٍ فكرية وإرث تنظيري كبير، يحدد شكل الدول وطبيعة السلطات وحدود الفصل بينها ونوع الروابط العلائقية بين الأفراد، وهو إرثٌ قائم على أفكار ومعارف فلاسفة ومفكرين كبار، استثنائيين في وعيهم ودرايتهم السياسية والفلسفية والقانونية، من أمثال جان جاك روسو وتوماس هوبز ومونتيسكيو وغيرهم من الأعلام والمفكرين، الذين تنال مصنفاتهم وأفكارهم الترحاب والاحتفاء والتدوير إلى يومنا هذا.

تضمن الكتاب بين دفتيه قراءات واجتهادات غاصت في عمق مجموعة من الإشكاليات المعرفية المعاصرة، لا سيما في مجال الإعلام والمنصات الاجتماعية التي تعتبر منتجات حداثية، والتفاعلات والتغيرات التي انبثقت عنها، وباتت تؤثر على الأفراد والمجتمعات والشعوب بشكل جذري.

ويرى عبد العالي زواغي «أننا كأمة نحتاج إلى ثورة «كوبرنيكية» (نسبة إلى نيكولاس كوبرنيكوس) جديدة على مستوى الأفكار، إذا كنا نريد التمركز المريح في النظام العالمي وضمان مكانة وسط الأمم الأخرى، فمثلما قام كوبرنيكوس بنسف المسلمة القديمة القائلة بمركزية الأرض في المجموعة الشمسية، ومن ثم الإنسان، وتحويلها بشكل ثوري إلى الشمس، فإنه من الواجب علينا أيضًا، تحويل مركز اهتمام الأمة بكل مكوناتها ومؤسساتها من الثقافة الاستهلاكية والاتكالية غير المنتجة للمعرفة، التي ساهمت في تحريف بعض القيم والمعايير الأصيلة وأفسدتها بشكلٍ واضحٍ وجلي، إلى صناعة الفكر والثقافة الحقيقية المنتجة للمعرفة والقوة، القادرة على بناء إنسانٍ واع منخرط بكثافة في حركية التاريخ» (ص 222-223).

ويوضح الباحث أن «المؤسسات الاجتماعية والقوانين والقواعد والتقاليد التي تتحكم في علاقاتنا تؤثر بطريقة حاسمة في مجرى أفكارنا، فنحن الكائنات الإنسانية لا نفكر لوحدنا أو بدون أدوات؛ إذ تزود المؤسسات، واللغات، وأنظمة الإشارات وتقنيات التواصل، نشاطاتنا الإدراكية بالمعلومات بشكل عميق، فالجماعي يفكر بداخلنا» (ص 212-213). ويمكن القول إننا «لا نمارس إمكاناتنا الذهنية العليا، كما يقول بيير ليفي، إلا من خلال «المشاركة في مجتمعاتٍ حية مع تراثها وصراعاتها ومشروعاتها، وفي الخلفية وفي الواجهة، تكون هذه المجتمعات موجودة في كل فكرة من أفكارنا، عن طريق إمدادنا بالمحاورين أو الأدوات الذهنية أو أغراض التفكير» (ص 213).

قسَّم الكاتب محتوى الإصدار، إلى أربعة فصول متكاملة ومتجاسرة، ابتدأها بفصل أسماه «العقلانية في عصر اللايقين»، والذي تفرع عنه اثنا عشر بابًا، افتتحها بموضوع حول «ثمار العقل الآثم»، حين تحالفت السياسة مع الشركات المتخصصة في التكنولوجيا الرقمية واستثمرت العلم في بسط سيطرتها على المجتمعات، وإعادة هندسة سلوك الأفراد بما يتماشى ومصالحها، فعالم اليوم يسوقه، بحسب الباحث، «ملوك الأعمال»؛ وهم سحرة العصر، حيث اجتمعت في أيديهم ثروة وسلطة لم تجتمع لغيرهم من قبل، وغدوا قادرين على إعادة تشكيل الإرادة الجماعية للشعوب من خلال آليات اختراق وتضليل تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم. ويشير المؤلف إلى أن الإنسان الذي انتقل من «الارتجاف» إلى «المعرفة» لم يعد يملك زمام الأمور وأصبح خاضعًا «لحُكم الخوارزميات»، يطارده الذباب الإلكتروني أينما حل وارتحل في هذه الفضاءات الرقمية غير المتناهية ليجعل منه كائنًا هشًا لا يتجاوز سقف وجوده تجميع «علامات إعجاب» من هنا وهناك.

وتتوالى في هذا الفصل قضايا أخرى، من قبيل «عصر اللايقين»، و«الحداثيون والأخلاق»، و«محنة التفكير المختلف في عالم سطحي»، و«التفكير لا يقتل والأسئلة لاتموت»، و«ثورات الاسترداد الحضاري» وغيرها من الأبواب المنفتحة على عالم اليوم بتشعباته وتناقضاته ونكوصه.

أما في الفصل الثاني الذي جاء تحت مسمى «حضارة الشاشات»، وتفرَّع عنه أحد عشر بابًا، فقد ابتدأه بباب حول «مأزق الزمن الرقمي وفخ التقانة»، حيث يرتحل بنا الكاتب في مسعى إلى استكشاف عوالم الزمن الرقمي بغرائبيته ومطباته التي لا تنتهي، محذرًا من الاستغراق في «خمرة النقر وملامسة الشاشة والانغماس المفرط في مواقع التواصل الاجتماعي»، ومشدّدًا على ضرورة الوعي بأن هذا الواقع «فوق الواقعي»، بعبارة بودريار، يقود المجتمعات إلى فواجع تتجلى مظاهرها يومًا بعد يوم في حالات الانفصام وأمراض العصر المتكاثرة، وتراجع بل سقوط دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية والثقافية التي شكّلت إلى فترة قريبة مرجعيات يحتمي بها الأفراد من التيه. فحينما تجتمع «الأقانيم الثلاثة» بعبارة الباحث «اللّذة والسّلطة والمال» وتصبح الرموز العليا، فذلك «مؤذن بخراب العمران» كما يقول ابن خلدون.

ويرى عبد العالي زواغي أنه ربما كان الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفتسكي صادقًا في كتابه «عصر الفراغ»، عندما تنبأ بأن العصر الذي نحياه هو بداية بروز «الإنسان النفسي» الباحث عن كينونته ورفاهيته، متخليًا عن المثل و المبادئ الأخلاقية في سبيل إشباع رغبات ونزعات جذرية فيه،مثل حُبِّ التملك والسلطة والظهور ، وإن توسل بأدوات وطرق غير عقلانية وغير أخلاقية، لتأتي اليوم مواقع التواصل الاجتماعي لتوفر له الفرصة الذهبية لإظهار نفسه والتعبير بحرية عنها، إلى حد الإسفاف، جريًا وراء الشهرة والمرئية وإثباتًا لوجوده ولفتًا للانتباه، على اعتبار أن ما هو غير مرئي غير موجود (ص 149).

تتوالى الأبواب حول التفاعلات والقضايا المرتبطة بالشاشات الحديثة والتدفقات المعلوماتية الهائلة ، والتي تدخل ضمن الحضارة الرقمية أو «حضارة الأصبع» بتعبير يوخن هوريش، المفكر المعاصر وأستاذ الدراسات الألمانية الحديثة وتحليل وسائل الإعلام بجامعة مانهايم.

أما في الفصل الثالث، فقد خصصه الكاتب للحديث حول عصر الذكاء الاصطناعي، متطرقًا إلى بعض القضايا الإشكالية المتعلقة بهذا المجال الذي يتطور بسرعة قياسية، مؤثرًا على الكثير من المجالات حتى على الطقوس الدينية والعبادات.

وفي الفصل الرابع، الذي حمل عنوان «العلم والشاشة في زمن الصراع»، واحتوى على خمسة أبواب، غاص من خلالها في العلاقة التي تربط بين الصراعات والعلوم الحديثة وتوظيفها للإعلام ووسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، في التأثير على الخصوم وحسم المعارك الهجينة التي باتت أكثر ضراوة على هذه المنصات، لتوسلها بتقنيات ونظريات نفسية واجتماعية متعددة، ومراقبة كل شاردة وواردة تحدث في العوالم الرقمية؛ ومن بين الأبواب نجد «حروب السرديات، ملامح المواجهة الإعلامية بين الغرب وروسيا»، و«نبوءات النهاية، حضور الإسكاثولوجيا في خطابات الحرب» (الاسكاثولوجي Eschatology هو علم الأخرويات) وغيرها.

إجمالًا، يستثمر المؤلف معجمًا لغويًا ثريًا وعدة مفاهيم غنية واجتهادات متنوعة و«خلطة» عجيبة جمعت بين المشرق والمغرب كي يُقدِّم للقارئ عملًا رصينًا يستقرئ المستقبل ويحذر من تبعات الانسياق وراء التكنولوجيا والمنصات الرقمية دون وعي أو تبصُّر.

إعلان