إعلان

"ديسك" المعلومات البشري.. نظرات في كلام ساكن

د.هشام عطية عبد المقصود

"ديسك" المعلومات البشري.. نظرات في كلام ساكن

د. هشام عطية عبد المقصود
07:04 م الجمعة 10 فبراير 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

كان واحدًا من أكثر مؤشرات تقييم كفاءة وجدوى شراء أجهزة الكمبيوتر المكتبية والمحمولة لدى عامة الجمهور تتأسس على ذلك الاستفسار المركزي: عن سعة تخزين المعلومات ثم مقدار سرعة تشغيل والتعامل مع تلك المعلومات المخزنة وما يرتبط بها من عناصر وبرامج، هكذا مضى واتكأ غير الخبراء في مجال الحاسب على هذين العاملين المحوريين في مجال تقييم كفاءة وفاعلية ما يقررون أو ينتوون شراءه ارتباطا بتقييم مسبق لطبيعة احتياجاتهم الحالية والمستقبلية قصيرة الأمد، كان المؤشران كافيين كثيرا لديهم كمستخدمين أفراد للحكم على الكفاءة فجهاز كمبيوتر محدود كثيرا في طاقة تخزين المعلومات سرعان ما ستشكل قدرته على إضافة وحفظ معلومات وملفات أكثر ذات صلة بما قبلها، كما أن جهاز بطاقة تشغيل وبرامج محدودة هو بطيء الاستجابة للعمليات التي تُطلب منه، ومضيع للوقت في مجال العمل والبحث والمعرفة وهو أيضا غير متواكب مع سرعة إيقاع الحياة.

وحيث مثل دور أجهزة الحاسب امتدادا لدور ومجالا تقنيا متسعا وفريدا تاريخيا لعمليات العقل البشري التي عاش البشر بها ملايين السنوات دون عون سوى من وسائل بدائية الكتابة ورسم النقوش والصور على الجدران والجلود والعظام ثم الورق، وحيث اعتاد العقل البشري أولا الحصول على المعارف ثم بناء آلية لحفظها عبر تصنيفات لتراكمها ثم القيام بدور ربطها ومقارنتها حتى الحصول على الاستخلاصات في أمر أو مسألة مؤسسة على ما هو مخزون لديه، ولم تضمحل وسائل حفظ معلوماته، وإلا صار يعمل بنقص وعشوائية على غير هدى وارتفعت احتمالات الخطأ وقصور تمثيلاته المعرفية.

ومن ذلك العقل البشري هبة الخالق جلت قدرته تجلت الاختراعات جميعها، وظل قانون الحياة أنها تتطور من خلال الوعي بالاحتياج وامتلاك المعرفة اللازمة والشاملة ثم القدرة على تشغيلها من أجل تجاوز العادي والمكرر والمتاح، فتظهر الرؤى العظيمة والاكتشافات المضيفة وتتزايد مساحة المنجز البشري الذي يعمر في الأرض ويمنح ما ينفع الناس، وهذه هى مساحة فهم كيف تعمل "الأسباب" في مسيرة حياة البشر في الكون إضافة وعلما، سعيا ومنجزا، فينتج عنها التطوير والنمو والعمران وما يرتبط بها من وسائل راحة الفرد واستقراره وقدرته على إدارة الظواهر المحيطة به، فالمعرفة بواقعيتها وتفاصيلها وجدل إحداثياتها تؤسس أيضا لمنصات ذهنية مستشرفة تمنح الإنسان خيالا ممتدا لا حدود له وإن كانت له نقطة بدايات، يتحول بعضه أو أكثره الى واقع وأدوات وفق ما يمنحه سياق بيئة الفرد من إتاحات ناقلة ومفعلة للحلم الذي تؤسسه المعرفة.

وواحد من أبرز العشوائيات الفكرية وطرائق التفكير والقول الملقاة على قارعة طريق الحكى والتي ينخرط فيها البعض تأسيسا على يقين ظاهرها الراسخ، هى التقليل من قيمة قدرة العقل البشري على التعامل مع المعارف والمعلومات أولا من خلال كفاءة تخزينها ثم كفاءة استدعائها، وطبعا لابد وأن يأتي تاليا ولاحقا كفاءة توظيفها تحليلا وتفسيرا واستخلاص، حيث تترى مقولات أن قدرات الأفراد والنشء خاصة في مراحل التعليم على الحفظ واستدعاء المعلومات هى حالة ستاتيكية لا قيمة لها مجتمعيا، وكأن التفكير والإبداع من وجهة النظر هذه سيؤسس على فراغ من "هارديسك" معلومات فلا يمدون القول بأنها وحدها عملية غير كافية ومنقوصة أن لم تمتد إلى حسن إدارة المعلومات وتوظيفها فيما يخدم الحياة والمستقبل، وحيث تخبرنا الدوائر العلمية والبحثية أن أخطر مؤشرات تدهور وجود الإنسان في الكون هو تدهور أو اضمحلال ثم غياب الذاكرة حتى لو ظل متمتعا بكامل صحته البدنية، هى النهاية الفعلية وإن تأخر تعبيرها "المادي" في الوجود، والتي تتمثل تحديدا في عدم القدرة على حفظ واسترجاع المعلومات، فلا تتعرف شاشة الإنسان ولا وسائل التقاطه على ما يرى ولا يسمع ولا تربط بين أى شيء وكل شيء، هذا الحفظ وكفاءة الاستدعاء للمعلومات تظل هكذا المرحلة المؤسسة بشريا في كل عمر والتى تسبق حتما أى قدرة على التفكير والاستفادة عبر التحليل ونواتج عملية تشغيل هذه المعلومات والمعارف.

وحين يلقى البعض بلا تحفظ موضوعي ومعرفي حجرا في وجه فكرة رفع قدرة الأطفال والنشء عموما على حفظ المعلومات واستدعائها ويعتبرون ذلك لا شيء قط هو غريب ومحير خاصة لو انخرط فيه بعض المتخصصين، والمشكلة ليست كذلك أبدا، والصحيح أن الوقوف عند هذه المرحلة من التعامل مع المعلومات هو هدر جزئي للطاقة، تلك الطاقة العظيمة ذاتها التى تقل جدواها عندما لا يتم دعمها نحو مراحل أرقى من توظيف ما تحتويه الذاكرة وما تقدمه طاقات حفظ واسترجاع المعلومات بشريا، دليل ذلك أن أى عملية تحليلية على أجهزة الكمبيوتر لا يمكن أبدا الوصول اليها دون قواعد معلومات، لكن إدانتها بالقول أن الحفظ حالة معرفية عقيمة وكفى هو إطلاق مخل وقراءة ناقصة تشيع تصورات ساكنة غير موضوعية لدى عموم الجمهور وتقلل من عملية متكاملة لبناء قدرات النشء، والأكثر جدوى وموضوعية هو أن تعرف وتعقلن ما تعرف وتصل منه إلى توظيفات فيما يهمك ويهم الناس.

إن قدرة النشء الهائلة على استيعاب وحفظ واستدعاء ما يدرسه من معارف هى قدرة عقلية فذة، وإلا كيف لازالت باقية فى عقولنا منذ الصغر بعض أجمل عبارات وأبيات من النصوص الفريدة التي أدهشتنا، وحيث لا يتحمل النشء أبدا ما يلي ذلك الحفظ من عملية تطوير معرفى لها ولا مسئولية عدم الأخذ بيده نحو تفعيل تلك المعارف بإضافة بنى تحليلية عبر آليات توفرها وتؤكد عليها وتعظم أهميتها نسق التنمية والتربية والثقافة والتعليم لتنقله نحو الخطوة التالية.

إعلان