سبعة أسابيع من الإغلاق

الضغط النفسي الناتج عن حصار "كورونا" المضروب علينا آخذ في التزايد. الأيام والليالي الطويلة في الحجر المنزلي لم تجعلنا نعتد الحصار، بل زادت وطأته عمقًا. هل تذكر الأيام الأولى عندما تم فرض العمل من البيت، وأغلقت المقاهي، وتم تقييد الحركة على الطرق ليلاً. وقتها لم نشعر بالصدمة، وظللنا لأسابيع قليلة بعدها نسخر من الوضع الجديد، ونتسابق في إطلاق النكات عن الرجال الذين يخرطون الملوخية، ويشعرون بأعراض الحمل، ويلعبون مع الأطفال على السلم. مرت أسابيع إضافية، وقلت النكات، حتى كادت تختفي، فالموضوع لم يعد مزحة، والأمر لم يعد يحتمل الهزار، فالكآبة وصلت إلى الحلقوم، والملل خنق ما فينا من رغبة في الاستظراف واستعراض خفة الدم.

الإنسان حيوان اجتماعي محب للحرية. هذا ما أدركناه في ظل الحصار الذي فرضته "كورونا" علينا. لم يكن مستغربًا قبل "كورونا" أن تسمع أحدهم يتحدث عن الزمان الغدار، والناس المخادعين الذين لا يستحقون ثقتك. لم نعد نسمع هذا الحديث كثيرًا، فقد أصبحنا نفتقد البشر، ونتطلع لليوم الذي لا نخشى فيه من الاختلاط معهم، والتحدث لهم عن قرب. ربما ما زال رأينا فيهم سلبيًا كما كان، ولكننا أيضًا أصبحنا ندرك أن احتياجنا إليهم أكثر كثيرًا مما كنا نظن.

أحاول نقل مشاعر الضجر والضيق التي أشعر بها لصديق عبر التليفون، لكن الكلمات لا تسعفني في نقل مشاعري للآخرين. الكلمات المعتادة لها معانٍ سطحية رائجة، أما ما نعانيه تحت الحظر الثقيل فهو شيء جديد تمامًا لم نخترع بعد الكلمات القادرة على التعبير عنه. تناولت رواية الطاعون لألبير كامو، فوجدته يصف مشاعر مشابهة. إنها مدينة تحت حصار الوباء، يشعر الناس فيها بمشاعر السجن والنفي والندم والغربة، يعيش الناس فيها في الماضي؛ لأن الحاضر لا يحتمل، والمستقبل ليس من حق أحد أن يحلم به؛ لأنه لا يعرف متى ينتهي الكابوس، أو ما إذا كان سيخرج منه، أو سيخرج منه المحبوب سالمًا. إنها حالة وحدة شاملة. لم يكن بوسع أحد، في أطراف هذه الوحدة، أن يأمل المعونة من جار له، فكل امرئ وحيدٌ مع ما يشغله. وإذا اتفق أن حاول أحدنا أن يبث سواه سره أو أن يقول شيئا ما عن عاطفته، فقد كان الجواب الذي يتلقاه، أيا كان أمره، يجرحه غالب الأحيان. وكان يلاحظ آنذاك أنه ومحدثه لا يتكلمان عن الشي نفسه. كان هو يعبر في الحقيقة عن أفكاره من أعماق أيام طويلة من الاجترار والآلام، والصورة التي يرغب في نقلها تكون قد طبخت طويلا على نار الانتظار والعاطفة، أما الآخر فقد كان يتصور، بالعكس، انفعالا اصطلاحيا، ألما يباع في الأسواق، كآبة متكررة النموذج. سواء كان الجواب عطوفا أم ضاغنا، فقد كان يأتي دائما مزيفا، وكان ينبغي العدول عنه. أو أن الذين كانوا لا يحتملون الصمت، ومادام الآخرون لا يستطيعون أن يجدوا لغة القلب الحقيقية، فقد كانوا ينقادون لتبني لغة الأسواق وللاشتراك في الحديث بالطراز الاصطلاحي الذي هو السرد البسيط ووصف الوقائع العادية، الوقائع اليومية بالإجمال. هنا أيضا نجد أن أصدق الآلام كانت تعتاد التعبير عن نفسها في الأشكال التافهة من الحديث. وبهذا الثمن فقط كان في وسع أسرى الطاعون أن يحصلوا على الشفقة أو على اهتمام مستمعيهم.

أنا غاضب من الحصار، ومن "كورونا" التي تصيب كل يوم عددا من المصريين أكبر من العدد الذي أصابته في اليوم السابق. لكن الغضب لا يفيد؛ فلا يمكن إخافة الفيروس، وهو في كل الأحوال لا يهتم بمشاعرنا، وكل ما يهمه هو الوصول إلى الرئة الإسفنجية الرقيقة، يتغذى عليها ويدمرها. فلا بديل عن التسليم، وليس الاستسلام؛ التسليم بالقدر، والصبر على البلاء، دون الاستسلام للوباء. هل سيساعدنا هذا على العودة لإطلاق النكات والسخرية من الفيروس، لا أظن، فقد ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، ولم يعد لنا سوى أن نأخذ الأمر بجدية شديدة، رغم الاكتئاب ورغم الملل.