إعلان

أصحاب الهمم (27).. إمام الأغنية الثورية "2"

د طارق عباس

أصحاب الهمم (27).. إمام الأغنية الثورية "2"

د. طارق عباس
09:00 م الخميس 06 فبراير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ظَلَّت موسيقى الشيخ إمام تتطور في داخله، باحثة عن منصة تنطلق منها، كان خزينه اللحني يتسع، مضيفا للموجود القرآني أصوات الحواري وأغنيات العمال والفلاحين وترانيم أهل النغم الجامعة بين المتأصل في النفس والمستحدث من طقاطيق وأدوار وموشحات ومنولوجات ومواويل... إلخ.

جاءت نقطة التحول المهمة في حياة الشيخ إمام، عندما التقى برفيق دربه الشاعر "أحمد فؤاد نجم"، وذلك في عام 1962، حيث أُعجِبَ كل منهما بشخصية الآخر وبإحساسه وبجرأته وبقدرته الفنية، وقررا أن يخوضا معا غمار مشوار فني محفوفٍ بالمخاطر والتحديات وملونٍ بعذابات الأيام ومرارة القوانين المقيدة للحريات.

كانت الانطلاقة من حوش آدم حيث قرر نجم الإقامة مع الشيخ إمام في بيته الصغير الذي كفاهما بالكاد، ومع ذلك احتوت جدرانه أساطين الفن ورواده ممن كانوا يتجمعون يوميا في هذا البيت للتحاور والتشاور في كل ما يتعلق بالأدب والفن والسياسة، وما له علاقة بالشؤون الحياتية المختلفة وبأحوال الناس المعيشية.

ظهرت باكورة إنتاج الرفيقين من خلال أغنية "أنا أتوب عن حبك أنا"، وهي أغنية عاطفية كتبها نجم سائرا على نهج معاصريه من الكتاب، أما الشيخ إمام فقد لحنها بوحي من ألحان الشيخ زكريا أحمد وتأثيرها في نفسه.

أولى إرهاصات المعارضة عند نجم وإمام، وُلِدَت على استحياء في أغنية "كلب السِت" التي عَبرت عن معركة بدأت بينهما وبين رمز مهم من رموز الأغنية المصرية والعربية السيدة "أم كلثوم"، ومناسبة القصيدة هي أن طلبة معهد التربية في الهرم، قرروا إقامة يوم رياضي مع طلبة كلية "الفنون الجميلة" بالزمالك في المنطقة الواقعة خلف فيلا أم كلثوم، وبمجرد أن مشى بعض الطلاب أمام الفيلا، خرج كلب أم كلثوم وعض أحدهم، وكان يُدعى "إسماعيل" سال الدم غزيرا من رِجل الطالب؛ لذلك قرر التوجه لقسم الشرطة من أجل تحرير محضر بالواقعة، وتم تحويل إسماعيل للقوميسون الطبي الذي أثبت إصابته، وبالرغم من ذلك أُطلِقَ صراح الكلب، بينما تم الإبقاء على الطالب في الحجز مدة أسبوع، وهو ما استفز نجم ودفعه لأن يكتب قصيدة كلب الست ساخرا فيها من الواسطة التي جعلت من الكلب حرا ومن المجني عليه مسجونا، ثم يدفع بالقصيدة إلى الشيخ إمام كي يلحنها ويغنيها:

هيص يا كلب الست هيص لك مقامك في البوليس

بُكرة تِتوَلِّف وزارة للكلاب يخدوك رئيس

مع حلول نكسة 1967، يُغتال الأمل في النصر على إسرائيل وتتحول شعارات عبد الناصر وأحلام القومية العربية إلى كوابيس أزعجت عموم الناس "مسلميهم ومسيحييهم، مثقفيهم وأمييهم، رجالهم ونسائهم وشيوخهم وشبابهم أدبائهم وشعرائهم ورساميهم"، وطوائف وأطياف لا تكاد تصدق تلك الهزيمة التي مُنِيَ بها المصريون والعرب على يد الصهاينة، لا يكاد أحد يصدق أن إسرائيل التي كان من المفترض أن يكون مصيرها الإلقاء في البحر، باتت تحتل سيناء والجولان والقدس والضفة الغربية، وأصبح الواقع أَمَرّ وأقسى من أن يُحتَمَل، وإذا بإمام ونجم – في لحظة تبدو فيها الأمة عاجزة – يفجران بركان الغضب الكامن في نفوسهما، ويُعلنان التمرد على السلطة بصياغة أغنيات انتشرت بين الناس كالنار في الهشيم، أغنيات رافضة للاستسلام واليأس والهزيمة وساخرة ممن تسببوا فيها ويشكلان حالة من مزيج متفجر من الإحساس والغدر والإحباط والفقر والجوع وشرعنة الوحشية، مطلقين العنان لخيالهما – كتابة ولحنًا – لصناعة أغانٍ تلهب وتلهم، تواسي وتجرح، تطالب بالثأر وتلعن من قتلوا في الناس الحُلم وأضاعوا قضية فلسطين، من أشهر الأغنيات التي عبرت عن جُرح الهزيمة: "الحمد لله خبطنا تحت بطاتنا، بقرة حاحا".

استشعرت السلطة السياسية المصرية الخطر مما يصوغه ضدها إمام ونجم، وبدلا من أن تحتويهما، أمرت باعتقالهما، وصدر ضد الشيخ إمام حكم بالمؤبد؛ ليكون أول فنان يُحكَم عليه بمثل هذا الحُكم.

أُفرِجَ عن إمام بعد وفاة عبدالناصر، لكنه سرعان ما عاد للسجن هو ونجم بسبب أغنياتهما التي سخرت من الرئيس السادات وسياساته، وعلى ما يبدو أن عودتهما للمعتقل، كانت حافزًا؛ لأن يكتبا ويلحنا من خلف الأسوار أروع وأجمل أغانيهم، "شدي حيلك، مصر يَمَّا يا بهية، يا فسلطينية، البحر بيضحك ليه، عن موال الفول واللحمة، بوتكاتي الناتي كوناتي".

سُجِنَ نجم أكثر من 18 سنة، لم تكن كلها بسبب المعارضة، على العكس من إمام الذي أعتقل بسبب مواقفه السياسية الحازمة والحاسمة.

كان الشيخ إمام بحق صوتا للعرب والعروبة، كان لا يخاف أبدًا، ولا يتردد في أن يأخذ عوده؛ ليغني في أي مكان وكل مكان، وكلما كان يحذره الأمن من إقامة حفلٍ ما، كان يصر على عدم الرضوخ للأمر ومباشرة الغناء حتى لو كانت النتيجة هي إلقاء القبض عليه فور انتهائه من الحفل أو الندوة أو المؤتمر أو كان يغني في مصر في تونس في الجزائر في فرنسا في إنجلترا في ألمانيا، يحمل عوده بين يديه غير مترددٍ ولا هيابٍ، ومصر على أن يصل بصوته لكل من يعشقون مصر وترابها، هذا ما يمكن قوله عن مشوار إمام الحياتي، فماذا عن الخصائص الموسيقية في ألحانه؟ وإلى أي مدى استطاع من خلالها الوصول لقلوب وعقول الناس؟

هذا ما سيمكن الإجابة عنه في الأسبوع القادم.

إعلان

إعلان

إعلان