إعلان

العمل وتنمية استراتيجيات الأمل

د. أحمد عمر

العمل وتنمية استراتيجيات الأمل

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 09 يونيو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

التشاؤم اليوناني مصطلح يعرفه جيدًا دارسو الفلسفة والحضارة اليونانية القديمتين؛ فقد كان هناك ميل دائم بين اليونانيين القدماء إلى انتقاد الحياة ورفض منطقها غير العادل، والتسليم بتعاسة الإنسان وهشاشة وجوده، وظلم الآلهة والأقدار له.

ولهذا تحفل "الإلياذة" و "الأوديسة"، وهما الملحمتان اللتان كتبهما شاعر اليونان العظيم هوميروس، وصارتا من بعده "إنجيل اليونانيين"، بالكثير من النصوص التي تُشير إلى تعاسة الإنسان، وأن حياته ووجوده ألعوبة في يد الآلهة التي تريد أن تفرض سلطانها عليه، وتصنع قدره.

كما نجد أصداءً واضحة لهذا "التشاؤم اليوناني" في الشعر التراجيدي اليوناني القديم الذي أبدعته الروح اليونانية في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، والذي يحفل بصرخات اليأس من عجز الإنسان إزاء هشاشة وجوده، وظلم الأقدار له، والشقاء الذي يطغى على حياته القصيرة التي هي أشبه ما تكون بظل حلم عابر.

يقول هوميروس في الإلياذة: "ليس هناك بين المخلوقات التي تتنفس على الأرض أو تزحف عليها ما هو أكثر تعاسة من الإنسان". وهو نفس المعنى الذي يتكرر في "الأوديسة" حين يقول هوميروس على لسان بطلها أوديسيوس: "لا شيء تُغذيه الأرض أضعف من الإنسان دون سائر المخلوقات التي تتنفس وتتحرك فوق الأرض، لأنه يعتقد أنه لن يعاني الشر أبدا في أيامه القادمة، طالما تهبه الآلهة الرخاء وركبتاه سريعتان؛ حتى إذا ما عادت الآلهة وكتبوا له الحزن، احتمله بامتعاض بالغ وهو راسخ القلب".

ولعل أكبر إيجابيات الروح اليونانية أن تلك الأفكار التشاؤمية والرؤية المأساوية للحياة لم تدفع الإنسان اليوناني للقعود واليأس القاتل أو الانتحار وترك الاستمتاع بالحياة، والبعد عن العمل وبذل الجهد، بل صنعت ما أطلق عليه الفيلسوف الباحث الروماني في تاريخ الأساطير والدين "مرسيا إلياد"، وصف "المثل الأعلى اليوناني للحياة المنبثق من اليأس"، والذي عبر عنه هوميروس في "الإلياذة" بقوله: "عش الحياة بالكامل في الحاضر، ولكن بشرف".

وأظن أن هذا المثل الأعلى الإنساني المُؤسس على اليأس، والذي يجعل شرف الحياة يكمن في العمل المستمر لتحقيق الأفضل، وقبول تحدي الوجود، رغم قصر الحياة، وهشاشة الإنسان، وظلم الآلهة، ومفارقات الأقدار، هو ما صنع في زمن قياسي معجزة الحضارة اليونانية القديمة التي لا تزال الإنسانية إلى اليوم تعيش على الكثير من إبداعاتها وأفكارها ومنجزاتها.

وهو كذلك الدليل التاريخي الذي يُثبت صدق مقولة الفيلسوف الإيطالي "أنطونيو جرامشي"، التي أطلقها في ثلاثينيات القرن الماضي، وهي: "إن الفلسفة هي تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة".

وهي المقولة التي تعني أن العمل المستمر هو أفضل وسيلة لخلق وتطوير استراتيجيات الأمل والتغيير نحو الأفضل ونيل شرف الوجود، والسعي للاستمتاع بالعيش، مهما كان حجم المبررات النظرية العقلية التي تدفع الإنسان لليأس والإحباط وفقدان الأمل؛ لأن دوام الحال من المُحال.

إعلان