إعلان

"كيميا".. رواية عن المنسي والمأخوذ على جلال الدين الرومي

د. عمار علي حسن

"كيميا".. رواية عن المنسي والمأخوذ على جلال الدين الرومي

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 24 أبريل 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

إبحث عن لوجو مصراوي داخل الموقع يومياً خلال شهر رمضان للفوز بجائزة

تسجيل الدخول

ما إن انتهيت من قراءة رواية "كيميا" حتى برق في رأسي تساؤلات:

ما الذي دفع وليد علاء الدين إلى كتابتها: هل هو التوحد مع رواية "بنت مولانا" لمورل مفروي، أم زيارة ضريح مولانا جلال الدين الرومي، أم كانت لحظة شرود أشرق فيها الخيال بفكرة يعانق بها العقل الوجدان، وتمتزج الحيرة بالاطمئنان، أم رغبة دفينة في إلقاء نص بنهر الكتابة عن التصوف الذي تتدافع أمواجه بقوة في الحياة الإبداعية العربية؟

ربما هذه الأسئلة دارت في رؤوس آخرين، لكن الصبر قليلا على الإجابة، قد يذهب بنا في طريق مختلفة، لنحيل الرواية إلى أنها محاولة الانتصار لشخصية منزوية في سيرة ذائعة الصيت، وسحبها من الهامش إلى المتن، ليس لأن الكاتب يريد أن يتصدق بقلمه على من ظلمهم التاريخ، لكنه قبل التحدي، وأراد أن يلتقط من ركام المنسي والمهمل والمبعد عن عمد أو بلا قصد درة ثمينة، يمحو عنها ما علق بها من شوائب التجاهل والقهر والظلم والاستغلال، فتعود تبرق من جديد.

إنها الشخصية التي اتخذتها الرواية عنوانا لها، والتي أتت على ذكرها أليف شافاق في روايتها "قواعد العشق الأربعون" دون أن تتوقف عندها مليا، ومفروي في "بنت مولانا" التي اتخذت من كيميا بطلة لها، لكنها تركت خلفها ما دفع وليد علاء الدين إلى أن يبحث خلف هذه الشخصية من جديد، غير راضٍ بما انتهى إليه من سبقه إليها روائيا، فيرتدي أثوابًا عديدة إلى جانب ثوب السارد، غير مكتفٍ بما يمكن أن يمنحه الخيال لصاحبه من قدرة على ردم الهوة بين ما قيل وما لم يقل، وقد لا يقال حتى النهاية، عملا بالقاعدة التي تبرهن على أن كثيرا من التاريخ الذي وصلنا كان محض اختيار لمن كتبوه، فانتقوه، وقدموه، ورموا إلى القاع أشخاصا وأحداثا، بعضها كان أهم بكثير مما قد سجلوه، ورفعوه إلى عليين.

ولأنها شخصية لم تحضر كافيا في الحوليات التاريخية، ولا الأشعار، ولا حتى الأساطير التي نُسجت حول الرومي وأستاذه شمس تبريزي، فإنها فرضت هذه الحالة على النص نفسه، إذ كان على مؤلفه أن يجمع بين الاستطلاع الميداني وأدب الرحلات والتحقيق التاريخي وحدس الأديب وتخيله حين يرمم الشروخ، ويسد الفُرج، ويصل المسافات المنقطعة، ويمزج بين الذاتي والموضوعي، وما يوفره العلم من طرائق ومعطيات، وما يتطلبه الفن من أذواق ومواجيد، حتى يحصل في النهاية على هذا النص، الذي هو أشبه بدرة في عدة أصداف، ولفائف من العوالم والخيالات التي تتابع أحيانا وتتضافر حينا، ويتبع بعضُها بعضًا في مواضع ثالثة، لكنها لا تتبعثر، إنما تنتظم في خيط مشدود إلى الأمام، حتى وإن لم تتعين بدايته، إذ بوسعنا أن نقرأ الرواية من أي فصل فيها، دون أن نهمل سابقه أو لاحقه، لأن به يكتمل البنيان والمعنى ومقتضيات الفن.

ولأن الكاتب وجد أمامه نصين ناضجين حازا شهرة واسعة، أتيا على ذكر كيميا كعرض أو جوهر، كان عليه أن ينحت لنفسه مسارا مختلفا، يعتمد بالأساس على تجربته الخاصة في السعي وراء هذه الفتاة المظلومة، مدركا في الوقت ذاته شيئين، الأول أن المعلومات عنها شحيحة، مهما حاول، والثاني أنه أيضا كاتب له طريقته في السرد، بل في صناعة نص يخلتف عما صكته شافاق ومفروي، وهذا حقه في الاختلاف، عملا بقواعد أو تقاليد طالما تم اتباعها في السرد منذ أن عرف العالم فن المسرحية والرواية، حيث تم تناول بعض الشخصيات التاريخية بأكثر من طريقة، سواء في شكل مسرحية أو رواية أو حتى قصيدة شعر، ولم يزعم أي منها أنه هو المسار الصائب، أو الطريق المستقيم، أو الرواية المعتمدة، فهذا قد يصلح في خطاب المتطرفين والمتشددين والمتعصبين، لكنه لا ينفع في نهج الروائيين أبدا، فلكل ذائقته، والمعاني على قارعة الطريق، وكل نص حسب كاتبه، فتتجاور النصوص وتتقاطع وتتنافس حول شخصية واحدة، سواء كانت ذائعة الصيت بقدر الحسين بن علي أو يوليوس قيصر وهيباتيا، أو كانت متوارية في التاريخ مثل كيميا، أو حتى لا يوجد زخم تاريخي حولها مثل بعض الشخصيات التاريخية الهامشية التي تم التقاطها، واتخاذها بطلة لرواية.

وقد أراد الكاتب أن يصنع له مسارا مختلفا مع "كيميا" أو حولها، تجلى هنا في وصف تفصيلي للوجوه والأشياء والحالات، وللأبنية والطرقات والأطعمة والمشروبات، وسيل من الرؤى والخيالات، ونُقول واقتطاف عن مصادر، وذكر لأسماء مختصين في التاريخ، أو باحثين في التصوف، مثل روائي ومترجم إيراني مهتم بهذه المسألة، وباحث يسعى خلف قبر كيميا خاتون، علاوة على مراسلات يبعثها الكاتب، أثناء مهمته الصحفية، إلى المنبر الذي يعمل فيه بالخليج.

وهنا تمد الرواية ساقيها من التاريخي إلى المعرفي، ومن الماضي إلى الحاضر، ومن الثابت الراقد منذ قرون إلى المتحول والمتحرك الذي يجري بين أيدينا.

ولأن الكاتب لا يسلم سريعا بما سبق أن قرأه أو سمعه عن بعض الشخصيات التاريخية، صوفية كانت أو غيرها، فإنه يعمل عقله في كل ما قيل حول جلال الدين الرومي وأستاذه شمس تبريزي ومن حولهما ومعها وبهما ولهما.

وهنا يقول في مطلع المقطع الرابع والعشرين من روايته: "ضعت وتشتتت أفكاري في متاهة الديانات والمذاهب التي قادني إليها علاء الدين. لم أسع للرومي إلا بوصفه شاعرا وظاهرة إنسانية مرت عليها ثمانمائة سنة، ولا يربطني بشمس هذا سوى القصص الرائجة. أما الشعر فيظل شعرا بصوره وخيالاته وأنغامه، نختار منها، ونقتبس سعيا للمتعة أو الفائدة. وأما الرجل فقد حالت كيميا بيني وبين إنسانيته وصدقه، فسقط قبل أن أزور ضريحه".

وبعيدا عن السرد البديع في هذه الرواية، فإن البرهان الذي يريد أن يقيمه الكاتب، وهو لم يكن مضطرا لهذا، تعوزه مراجعة؛ فإن كان الرومي أسطورة، فإن الكل متساوق معها، راضٍ بها، ولا توجد أمة على الأرض بلا أساطير تمنحها التماسك والمثل العليا.

وإن كان حقيقة، فإن الاستدلال على ظلمه أو نقص إنسانيته، وبالأحرى ولايته، بما جرى للفتاة "كيميا" يحتاج إلى روية وأناة.

فالكاتب نفسه، وفي روايته تلك، لم يصل إلى كل الحقائق المتعلقة بتلك الفتاة، رغم الجهد الذي بذله، وصور "كيميا" نفسها كأسطورة، سواء أدرك هذا أم لم يدرك، شأنها شأن أولئك الذين رأى أنهم قد ظلموها، وألقوا بها في الهامش البعيد البارد.

لكن بعيدا عن هذه المحاججات التاريخية التي ليس بوسعنا أن نصل فيها إلى برهان، وإن وصلنا، فلن نستطيع التغلب على سيل التعظيم والتقريظ والتتيم والإشادة الذي حظي به البطلان الكبيران: جلال الدين الرومي وشمس تبريزي، فإننا ظفرنا بعمل روائي لافت، فيه جاذبية، وصور تسعى إلى الاكتمال، وسرد مشوق، وحيلة فنية مقبولة، وخلف كل هذا روائي قادر على الإمساك بزمام سرده، قابضا على أدواته، مدركا لمعنى توظيف ألوان عدة من الكتابة هي السيرة التاريخية، والتحقيق الصحفي، والعمل البحثي الاستقصائي، والمشاهدات الميدانية، وأدب الرحلات، والتأمل في الوارد من التاريخ المؤثر على الحاضر، من أجل أن يخرج في النهاية بعمل روائي فوق كفي "كيميا" المنسية.

إعلان